الشبحية في القصة القصيرة

الأنطولوجي والهانطولوجي

 في قصة (ليلة هلع عند ناهد)

د. مدحت صفوت


 (المداخلة الأولى ضمن حلقة قصة أونلاين لموقع صدى ذاكرة القصة المصرية الخاصة بقصة (ليلة هلع عند ناهد)، التي التأمت يوم الخميس 09 شتنبر 2021. إعداد وتقديم وإدارة الحلقة للكاتبة المبدعة مرفت ياسين)


أريد أن أغبط الأستاذ عبد القهار الحجاري على هذا الاهتمام الذي حضيت به قصته "ليلة هلع عند ناهد"، فقد اعتقدت بداية أن مناقشتها ستأخذ من كل واحد منا خمس دقائق على الأكثر، ويكون مجمل التدخلات في حدود نصف ساعة، لكن حدث ما لم أتوقعه، فأن تحضى مجموعة قصصية بكل هذا الكم من التدخلات، فربما يكون دليلا على حظها الأوفر من الاهتمام، من كثير من المجاميع المطبوعة، وأغبطه ولا أحسده على هذه الأسماء الكبيرة التي حضرت لمناقشة قصته.

اسمحوا لي أن أدخل "ليلة هلع عند ناهد" هذه، فقد تساءلت عندما فرغت من قراءتها: هل هذه محاولة لكتابة قصص "رعب"؟ وسرعان ما تجاوزت هذا السؤال وعدت لقراءتها، لأن اللغة التي كتبت بها تذهب بالمتلقي إلى أبعد من محاولة إثارة الرعب والهلع في نفسه وهو يقرأ هذه القصة التي تضعه في "الحالة الشبحية".

"الشبحية" مفهوم غير مستخدم بشكل لافت في الدراسات النقدية العربية، وقد عدت إليه في دراسة نصوص سردية، لأنه يتيح لنا التعامل مع النصوص بشكل مغاير نسبيا لما هو مألوف، وهو مقولة نقدية ظهرت مع استراتيجيات ما بعد الحداثة، خاصة مع التفكيكية، استعمله بالأساس جاك دريدا، وإن كان أول من استخدمه سيغموند فرويد في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، وصدر لجاك دريدا كتاب شهير ترجمه إلى العربية د. منذر عياشي بعنوان "أطياف ماركس"، ومن هنا بدأت المفردة تنتقل إلى النقد الأدبي العربي، وإن لم تأخذ حيزا كبيرا في الدراسات النقدية العربية، بدأت بجهود صفاء فتحي التي ترجمت مقتطفات من تطبيقات جاك دريدا لمفهوم الشبحية، وجهود فاطمة قنديل في رسالة دكتوراه عن كتابات جبران غير الشعرية، بعنوان "عن شعرية الكتابة النثرية لجبران خليل جبران" وكتاب د. شاكر عبد الحميد "الحلم، الكيمياء والكتابة في عالم عفيفي مطر".

في الشبحية هناك الوجود المتعين الأنطولوجي، واللاوجود الهانطولوجي الذي لا يعني بالضرورة العدم، أشهر مثال لها في الأدب العالمي، والد هاملت الذي يظهر ليحث الابن على الثأر.

بهذه الأدوات التي تتصل بمفهوم الشبحية يمكنني أن أقدم تأويلا لقصة "ليلة هلع عند ناهد"، فالسارد يعطينا إشارات منذ بداية القصة أننا لسنا أمام وجود متعين قائم بشكل حقيقي ومستقل، إنما هو وجود متخيل هو الطيف والشبح، وهو وجود محسوس مرئي لكن غير قابل للتعيين والتحديد. (لم أدر ماذا حدث بعد ذلك... أما الآن فيبدو أنني في حالة سرد) الفعل (يبدو) هو لعبة الشبحية في هذه القصة، وهو "تعيين" من خلال التخييل وعدم اليقين، و(حالة سرد) تعيين للوجود، فبما أن السارد في حالة سرد فهو إذن موجود وجودا حقيقيا، أما في إشارة: (أو هكذا يخيل إلي...) فنلمس لعبة التخييل، وهي إشارة إلى أننا سنلعب مع الخيال والطيف في لعبة السرد بهذه القصة، وهذه العبارة مستعملة في موضع آخر من "ليلة هلع عند ناهد" عندما يصف السارد رأس الوعل المعلقة: (يخيل إلي أنها نابضة بالحياة)، فهو خيال لا يستند إلى يقين، أما وصفه للمكان فهو مرتبط بالريبة (المكان المريب)، وهو ليس مكانا مخيفا ولا موحشا، بل هو مريب يدخل الشك والاتهام في النفوس، ليحضّر السارد القارئ لولوج المكان الذي تدور فيه أحداث القصة، وهذا المكان ليس سوى بياض الورق الذي خلقت فيه اعتمالات القصة، يتلقاه القارئ مرة كوجود متعين ومرة أخرى كطيف غير متعين.

(ليس بالمحل أحد...) إشارة أخرى للوجود الهانطولوجي لشخوص وحركات وأصوات ليست إلا في ذهن السارد وهو يحكي ما سيحدث لا ما حدث، وإن كانت بداية القصة تشير إلى الحدث باعتباره ماضيا، لا حاضرا في طور التشكل، وهنا لعبة السرد أيضا في مستوى الزمن، فالسرد يبني قصته داخل القصة بناء يقوم على الهانطولوجي الذي ينسحب على الحدث والشخوص واعتمالات الفضاء القصصي بموازاة مع الأنطولوجي المتعين للسارد.

المرأة الفاتنة (ناهد) تحمل اسما يحيل إلى دلالات متعددة متظافرة، فهي ذات صدر بارز، وحضور طاغ في الحدث، مستأسدة، ذات سلطة على المكان وعلى نفسية السارد، وتقيم بذلك علاقة تواصل أو مناهدة معه من موقعها، يقدمها السارد بوصفها تلك الفاتنة التي بلا ملامح لكن بحضور قوي وجمال وهيبة، إنها تمثل -في تأويلنا- جبروت الكتابة التي تجلس هناك قبالة السارد تدخن سيجارها وتنفث الدخان في الهواء/العالم الملوث على شكل دوائر تشكل عوالم طيفية شبحية، ولكن هذه الفتاة التي ترمز للكتابة ليست هي المثال الذي يبحث عنه السارد، لأنها بلا ملامح، وبلا قدمين، وبالتالي تصبح مخيفة ومريبة، وبدل أن تكون الكتابة ملاذا للإنسان تصبح مصدر قلق له ومبعثا على الغثيان (أحسست بمغص في بطني حتى قبل أن أمد يدي إلى الصينية)، إنها كتابة منفصلة عن السارد، كتابة تصنع أشياء تكرس الخوف: رأس وعل معلق على الحائط، ينبض بالحياة وليس مجرد ديكور معلق، تصنع تلك الأصوات والهرج الذي يعج به المكان ولا أثر فيه لأحد، إنها أصوات غير متعينة لأنها بلا مصدر.

كل اعتمالات المكان الهانطولوجية تشكل مصدر قلق وهلع للسارد الذي شعر بالتورط حين دخل هذا المطعم الذي يبعث على الريبة، ولم يعد بإمكانه أن يغادر، بسبب تمكن الخوف منه، وعجزه عن فهم هذه العوالم الغريبة: ازدحام المكان بشخوص غير مرئية، تدل عليهم جلبتهم وضحكاتهم التي لا تتوقف، جمال الجسد وانعدام الملامح لدى (ناهد)... علامات كثيرة تمثل غرابة الكتابة في عوالم غريبة، وغياب الثبات ممثلا في انشغاله بالتفكير في قدميها دون أن يتمكن من التركيز فيهما لانجذابه إلى أنوثتها الباهرة، كأن السارد يبحث عن كتابة راسخة ثابتة بدلا من هذه الفاتنة التي بلا ملامح وبلا قدمين.

في علاقة الأدب بالمرآة ومفهوم الانعكاس، تكون الكتابة من منظورنا في تأويل هذه القصة بلا ملامح إذا أُسِرت في الانعكاس ونقل الواقع كما هو تحت يافطة الواقعية، فالسارد وهو يتوجه إلى المرحاض ويقف أمام المرآة ينتابه الهلع مرة أخرى، حيث يتبين له أنه هو الآخر بلا ملامح، فيقف مذعورا، كأن صورة الكتابة التي تعتمد على الانعكاس أشبه بوجه بلا ملامح في المرآة، هنا تكون (ناهد) هي تلك الكتابة التي تفتقد للرسوخ والثبات، وبقدر ما هي جذابة وفاتنة فإن السارد يهابها ويرفضها، لأنه يبحث عن كتابة مغايرة ذات ملامح وقدمين.

قفلة القصة تأتي إثر الإغماءة والدوخة والغياب الذي حل بالسارد فجأة، وهو يحاول مقاومة حالة الهلع أمام وجود غير متعين حافل بالغرابة، فيختتم السرد بنفس الجملة التي بدأت بها القصة (ولم أدر ماذا حدث بعد ذلك...)، فنعود إلى مفتتح القصة لنتأكد من موقف السارد الذي يعيش حالة سرد غاص من خلالها في نقد نمط الكتابة الانعكاسية التي مهما كانت جذابة وفاتنة، فإنها لا تمثل كتابة راسخة.



إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال