القصة المغربية اليوم : الحال والمآل*
عبد القهّار الحَجّاري المغرب
تقديم :
•• لرصد الملامح العامة للقصة المغربية اليوم وآفاق تطورها، في سياق عالم موغل في الثورة التكنولوجية الرقمية.. مُمعن في المزيد من عولمة التنميط والتثاقف المدمر، وفي غمرة الإشراط الرأسمالي متعدد الأبعاد وصناعة مجتمعات الاستهلاك، يجدر بنا أن نتساءل عن حال ومآل القصة المغربية؟ كيف نقرأ التجريب القصصي وإشكالات التجنيس والاصطلاح؟ هل أثر في القصة المغربية تغيرُ مفهوم النشر ووظيفة النقد في ظل التحولات الكبرى؟ وما علاقة صعود الرواية بتراجع القصة؟ ••
1- التوغل في التجريب وفقدان البوصلة
انتقلت القصة المغربية في الستينيات من التأسيس إلى التأصيل، بعد بواكير النصوص القصصية في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، ونذكر منها : "عمي بوشناق" لعبد الرحمان الفاسي، "فاس في سبع قصص" لأحمد بناني، "قدر العدس" لمحمد أحمد اشماعو، "قصص من المغرب" لأحمد عبد السلام البقالي...
وفي أواخر السبعينيات(1) دخلت متاهة التجريب التي لا تنتهي إلى اليوم، ولن تنتهي نظرا لطبيعة جنس القصة الذي يأبى أن يستقر في قوالب جامدة، لأنها عبارة عن اقتناص للحظة من الحياة، واللحظة هاربة متحركة ومتغيرة، وكل لحظة مفارقة متفردة مختلفة، والحياة بحر لا حدود له، ولا يتم هذا الاقتناص إلا من زاوية نظر الشخصية القصصية أو السارد ووفق أسلوبه، وهنا التمايز أيضا والاختلاف، ومن ثم تكتسب القصة ثراءها ولا محدودية إمكاناتها التعبيرية والفنية، فالتجريب يبقى قدرَها بحثا عن صياغة متفردة ممكنة دائما، خلافا لما يعتقده البعض من أن القصة دخلت التجريب بحثا عن الاستقرار في شكل فني "مناسب"، إنما هناك مقومات جوهرية تسمها وتطبعها، وتتمثل في قصر الحدث واقتصاد العبارة وقلة الشخوص، وتضافر دلالات السواد والبياض في طرس الكتابة القصصية...
وأول ما كسرته القصة المغربية كسرت الرتبة السردية وخطيتها : مقدمة، وسط، نهاية، وكفت ثانيا عن تقديم الجاهز والنصح والإرشاد، ودأبت ثالثا على حفز فاعلية المتلقي في إعادة بناء عوالم ومآلات السرد القصصي، وحاولت رابعا القطع مع التبشير بالإيديولوجيا، ذلك أن " البحث عن النص القصصي هو بحث عن التجاوز، التجاوز الخلاق بطبيعة الحال، وإذا كانت الستينات مهما قيل فيها، لا تعدو أن تكون سياق تأسيس وتأكيد على الحادث والمرئي فإن ما تلاها ينبغي أن يسعى لأن يكون مغامرة تقيم عقد قران مع المخفي وصدعا بحقيقة العالم الذي يتغير في اليومي، ومن طبيعة الأشياء أن يتغير كذلك، بل وبسبب ذلك، في مجال التأسيس الإبداعي؛ أي في النص"(2)
لقد فتح التجريب القصصي آفاقَ القصةِ المغربية على إمكانات تعبيرية هائلة، فأبحرت في ابتداع معمار سردي مفتوح ولا نهائي، كخطاطة الرسالة، والسرد المتقطع، وتداخل وتناوب قصتين أو أكثر، والخطاطة الدائرية، وصيغة القصة المتشظية؛ وتأتي على شكل فقرات مرقمة أو حالات متداخلة، والقصة الترابطية التي تدمج دعامات رقمية مختلفة على الويب... كما ولعت بالفنتازي والسوريالي وبالحلم وبتوظيف الشعبي والعالِم...
إلا أن التوغل في هذا المنحى التجريبي سرعان ما أفقد القصة المغربية بوصلتها؛ وغابت عنها تلك الخلفية الفكرية- الجمالية وذلك الأفق الفني، بمسوغ ترك الالتزام وتجنب الايديولوجيا، وسط تحولات عالمية عميقة ومتسارعة، ما أدى إلى إخساء بريق القصة وإفراغها من شحناتها التعبيرية، فمالت أكثر فأكثر إلى السطحية والاجترار، وهنا يمكن أن نتساءل :إلى أي حد يعبر هذا التراكم الكمي اليوم في القصة المغربية عن إمكان بروز تحول نوعي في الوعي الفكري والجمالي لدى الكتاب والقراء على حد سواء؟
وقد كانت القصة المغربية في ثمانينيات القرن الماضي تتكئ في ركوبها التجريب على تصورات فكرية واضحة وتوجهات جمالية لا غبار عليها، وأفق إبداعي جلي؛ أي كانت تعتمد على بوصلة موجهة لهذا التجريب، لكنها اليوم توغلت بعيدا في التجريب حتى فقدت بوصلتها التي توجهها وتعقلن مساراتها، والبوصلة بمعنى آخر هي ذلك الوعي الحاد بماهية ووظيفة الكتابة القصصية القائمة على منظور فكري وجمالي واضح، وفقدان البوصلة جعل التجريب كأنه لعبة سردية مجانية وبحث عبثي مضن عن شكل فني هلامي من دون ملامح ولا أفق ولا تصور.
2- الأقصوصة المغربية وإشكالية المصطلح
إن إحدى العلامات البارزة للتجريب القصصي بالمغرب منذ التسعينيات الانتشار الواسع لجنس الأقصوصة التي سميت ب"القصة القصيرة جدا"، حتى صارت موضة الكُتاب، مع أن هذا اللون كان موجودا منذ فترة الستينيات من القرن الماضي مع محمد إبراهيم بوعلو وآخرين، وكتبها هذا الرائد بوعي واضح بالتجنيس وبنفس المواصفات التي تشترط فيها حاليا، من شدة قصر الحدث، وقلة الشخوص، واقتصاد اللغة ومن تكثيف وإيجاز وإدهاش وترميز وحذف... ونعتبر مجموعته "خمسون أقصوصة في خمسين دقيقة" أول مجموعة قصص قصيرة جدا صادرة ضمن كتاب مستقل سنة 1984. (3)
ولا نعتبر تسمية الجنس مسألة حاسمة في التحقيب لهذا الجنس القصصي، بل إن سماتِه وخصائصَه التي ذكرناها هي المعيار الأساس لتحديد ميلاد جنس الأقصوصة/ القصة القصيرة جدا، أما معيار الكم فإنه معيار ثانوي، وهناك من يستبعد قصص محمد إبراهيم بوعلو من التجنيس ضمن القصة القصيرة جدا، بدعوى أنها أقاصيص، والأقصوصة في عرفهم أطول من القصة القصيرة جدا وهذا حكم مردود عليه، وحجتنا في ذلك حجتان لا حجةً واحدة:
الحجة الأولى أنهم يعتمدون القصر في حجم النص لا كسمة للحدث، أي أن القصر عندهم سمة كمية شكلية، في حين هي سمة نوعية وجوهرية تتعلق ببناء القصة لا بعدد سطورها، وهو الفارق الجوهري بين القصة والرواية، فالاقتصاد في العبارة نعم معيار، لكنه ليس ثابتا ولا مُحدَّدا تحديدا دقيقا متواضَعا عليه بين النقاد، فهناك من يكتب صفحة وهناك من يكتب بضع كلمات فقط، وهم متضاربون في تسميتها أحيانا بالقصة القصيرة جدا، وتارة بالقصة الومضة، وأخرى بالقصة الشذرة...لقد كانت القصة القصيرة في العقود الأخيرة من القرن الماضي تستغرق عدة صفحات، وكان معيار القصر - ولا يزال - متركزا في الحدث وفي قلة الشخوص أساسا، وهي قصيرة مقارنة بالرواية، وفي تناسب معها كانت الأقصوصة تستغرق أحيانا صفحة أو تزيد، أما اليوم فبما أن القصة القصيرة مالت أكثر فأكثر إلى اقتصاد العبارة وصغر الحجم استجابة للعصر، فإن الأقصوصة قد مالت هي الأخرى إلى القصر وصغر الحجم أكثر فأكثر حتى صارت قصيرة جدا وأصبحت ومضة وشذرة، فاستمر حجمها متناسبا مع حجم القصة القصيرة.
أما الحجة الثانية فهي أن جنس القصة لم يتفرع في الآداب العالمية إلا إلى ثلاثة ٱجناس : القصة أو الرواية القصيرة novella ، والقصة القصيرة short story والقصة القصيرة جدا very short story ، واكتفى نقادنا ومترجمونا بالترجمة الحرفية للمصطلح الأخير، ولم يكلفوا أنفسهم مشقة الاجتهاد لإيجاد الترجمة العربية وفقا لآلية الاشتقاق، والعربية كما نعلم لغة الاشتقاق، وهذا يقتضي اعتماد صيغة التصغير "أقصوصة" على وزن أُفْعولَة وهو الأنسب، حيث سمى بوعلو نصوصه القصيرة جدا أقاصيص، ومفردها أقصوصة، لكنهم درجوا على تفضيل الترجمة الحرفية لأنها سهلة، كما يفضلون التعريب لسهولته وبريقه المبهِر، وهم مولعون بكثرة الترجمات وتضاربها، وميالون إلى اجتناب الدقة، ما يؤدي في الكثير من الأحيان إلى الخلط والأحكام البعيدة عن العلم والموضوعية، وهذا إشكال آخر.
ولا تكاد تخلو مجموعة قصصية صدرت في العِقدين الأخيرين من هذا الجنس الثالث في القصة الذي استهوى القاصين إلى درجة الاستسهال وغزارة الكم في الإنتاج حد الإسهال، حتى أن بعضهم كتب نكتا معروفة، وسماها "قصة قصيرة جدا"، كثيرون انخرطوا في كتابة الأقصوصة من منطلق الملاءمة لمنطق العصر القلق المتسارع الميال إلى استهلاك الوجبات السريعة الخفيفة، وهو نفس "مسوغ" انتشار الأغاني الخفيفة في الموسيقى والهايكو في الشعر، لكن خاصية قصر الحدث، وقلة الشخوص، والتكثيف وسلطة البياض في النص وقابلية التأويل وإنتاج المعنى وفق رؤية إبداعية منسجمة ومرتكزة على أساس منظور واضح للأدب، لم تتمثلها كتابة القصة بتفريعاتها التجنيسية الثلاثة (قصة، قصة قصيرة، أقصوصة) بشكل جيد سوى في بعض الأعمال، منها التي كان لأصحابها فضل الريادة في القصة القصيرة؛ إذ تمثلوها ومثلوها على أحسن وجه، ومن هذه الأسماء محمد إبراهيم بوعلو، وعبد الحميد الغرباوي، ولدى بعض القاصين ممن تمثلوا جيدا تجربة الكتابة القصصية بالمغرب كما تجلت طيلة عقود منذ ثلاثينيات القرن الماضي، نذكر من بينهم محمد العتروس، عبد الله المتقي، عز الدين الماعزي، أنيس الرافعي، جمال بوطيب، وبقي هذا الفن الأدبي هلاميا في تصورات كثيرة تفصح عنها الاصدارات والكتابات المنشورة هنا وهناك..
فالقصة بأجناسها الفرعية (قصة، قصة قصيرة، أقصوصة) - مهما كان موطنها- لا تمثل في اعتقادي استجابة لتعقد الحياة وتسارع وتائرها، إلا بقدر صدورها عن رؤية تمثل تصورا بيِّناً للكون والحياة والجمال، وبمدى اشرئبابها نحو أفق مصطبغ برؤيا تتطلع إلى المستقبل، وبمدى قدرتها على دفع القارئ للاستشكال وحفز الآليات العقلية لديه.
3- قضايا القصة المغربية
لقد صارت كتابة القصة في المغرب تميل اليوم لدى كثير من كتابها إلى نزعة الحكي المجاني الذي بلا أفق حتى وهي تعتمد الاختزال، حيث صارت الكثير من الاصدارات والنصوص المنشورة تسجيلية، تنقل الوقائع الإعتيادية في الحياة اليومية، مع ضحالة الرؤيا وعوز الرؤية وإملاق التصور وضيق الأفق، ما يسلب عملية القراءة دورها الفاعل في إعادة بناء النص، بل إن كثيرا منها تعوزه أبسط الفنيات القصصية وأدوات اللغة السردية الأولية...
ومع ذلك بقيت كوكبة من القاصين المغاربة وفية للقصة القصيرة ذاتِ التجريب الواعي لمرتكزه الفكري وأدواته الفنية، تتوغل في أدغاله، فتورط القاريء في عوالهما السردية وتحمله تبعات اللهاث وراء الدلالة الهاربة، ومن هؤلاء الكتاب أحمد بوزفور، محمد صوف، المصطفى يعلى، عبد القادر الطاهري، الحبيب الدايم ربي، لطيفة باقا، لطيفة لبصير، زهرة رميج، بديعة بنمراح، مصطفى لغتيري، وفاء مليح، مليكة مستظرف، عبد المجيد جحفة، ربيعة ريحان، فاطمة بوزيان، رجاء الطالبي ...
منذ ستينيات القرن الماضي ساد في القصة المغربية الاتجاه الواقعي والواقعية الجديدة المتجاوزة لمفهوم الانعكاس نحو إعادة بناء الواقع، ومع التحولات العالمية وضمن نسق العولمة والثورة الرقمية، لم تفك القصة المغربية ارتباطها بقضايا المجتمع في صيغها الجديدة والمتحولة كما بقضايا العالم، بالرغم من محاولتها التخلص من الالتزام ومن الايديولوجيا، ولم تعد الفضاءات القصصية محصورة في المدينة بل تحولت إلى البادية أيضا، ترصد معاناة الإنسان واغترابه في عالم انفصل إلى واقعي وآخر افتراضي في غياب الكرامة وسيادة الفقر والهشاشة والهامشية والإقصاء والاضطهاد وتفكك العلاقات الإنسانية وفتور الدفء الانساني ... وارتبطت تيماتها بالهجرة المتفاقمة عالميا، وبحقوق الإنسان، كما أصبحت الكتابة موضوعا لافتا للقصة، وغدا بناء القصة هما للإبداع القصصي...
لكن مسألة التخلص من الالتزام والاديولوجيا تبدو صعبة أو غير ممكنة بشكل كلي، فمن المؤكد أن النص القصصي تجاوز، النزعات الوطنية الضيقة والقومجية والميولات الاشتراكوية والانقلابية، وكفت القصة المغربية أن تكون بوقا إديولوجيا بالصيغة الصارخة التي سيطرت عليها في ظرفية محلية وعالمية ساد فيها الاستقطاب والشمولية، لكن القصة لا تنفصل عن النزعات والأفكار سواء أكانت شوفينية ذكورية أو قبلية أو إسلاموية أو فاشية أو نزعات ديمقراطية تقدمية وتحررية أو كتبشير ب "قيم" العولمة.. سواء كتيمة للنص القصصي أو كمضمرات في اللاوعي تكشف عنها اللغة القصصية، ومن الأمثلة البارزة في هذا الصدد، تشبث الكثير من القاصين بوحدة أفق الكتابة بوصفها عملية مرتبطة بالكون والطبيعة وبوضع الإنسان بجنسيه؛ المرأة والرجل، وتوقه نحو الأفضل، بينما يتشبث آخرون ومعهم الكثير من النقاد بعبارة "الكتابة النسائية" أو القصة النسائية التي تنطوي في حد ذاتها على ذهنية ذكورية تضع إبداع المرأة القصصي في الدرجة الثانية بعد إبداع الرجل، وتعزل هموم المرأة عن هموم المجتمع، وهذا القول يصدق أيضا على عبارات مثل "الأدب الإسلامي" أو الأدب التقدمي"، فهل هذه وتلك ليست من الايديولوجيا؟
إن رهان القصة المغربية اليوم يكمن في اسثارة فاعلية التفكير وطَرْق استشكالات الحياة والوجود والطبيعة والكون، واستشراف المستقبل الغامض المنذور بأخطار بيئية كارثية محدقة جراء تفاقم الإضرار بالبيئة الطبيعية، مع انسداد آفاق السلم والعيش المشترك الكريم، وتفاقم تدهور البيئة، واستمرار الهشاشة والتخلف، وتزايد التحكم الرقمي والتكنولوجي، وسيطرة الإشراط الرأسمالي الاستهلاكي وارتهان مصائر العالم بالقوى والطغم المتوحشة وتشتت القدرات الانتباهية للإنسان، وميله إلى التفاهة والبلاهة أمام الشاشات الرقمية وألواح المفاتيح وفي مواجهة سلطة الاشهار، في مقابل التطور المخيف للروبوتات والذكاء الاصطناعي... كل هذا يؤدي إلى افتضاح مزاعم "الإنسانية" ويبين توغل الإنسان في الهمجية، وهذه في المجمل استشكالات تيار ما بعد الحداثة التي لا تزال القصة المغربية والعربية عامة تحاول طرقها باحتشام.
4- النشر والنقد والإشعاع
لا تخفى على أحد أهمية النشر والنقد في تطوير الإبداع، ولا يمكن للقصة أن تزدهر وتتطور في مناخ ثقافي يفتقر إلى الاعتراف والمصداقية، بيئة يعوزها النقد الموضوعي البعيد عن الحسابات الضيقة والأنانية، فالنشر عندنا كان وما يزال خاضعا لأمزجة القائمين على المؤسسات وهيئات التحرير ودور النشر التي غدت شركات رأسمالية تهرول خلف اقتصاد السوق والربح المادي أساسا، وأصبحت فيها لجان القراءة استشارية شكلية لا قرار ولا سلطة لها.
ومع انتشار الشبكة العالمية، أصبح النشر متاحا للجميع، من خلال حركة التدوين والمنتديات والمجلات الالكترونية والمواقع الثقافية والشخصية ثم صفحات التواصل الاجتماعي، وظهرت الطباعة الرقمية وأصبحت متيسرة، فعرفت ساحة النشر سيلا عارما وازدحاما كبيرا للمنشور القصصي والثقافي عامة، وظهر النشر الذاتي واكتسح الصفحات الخاصة، واصدار الكتب.
هناك كم هائل من النشر الورقي والالكتروني خلال العشرية الأخيرة، تغطي فيه الكتابة القصصية مساحة شاسعة، لكن المعيار الكمي ليس دليلا على التقدم والازدهار بالضرورة، ولا يلبي وحده حاجيات المرحلة، لأنه كم فقير النوع في الغالب الأعم، ولا بد من توفر شروط أخرى، من أهمها ارتكاز الكتابة القصصية على بوصلة فكرية فلسفية وجمالية واضحة.
في زمن الاستقطاب الإديولوجي وقبل انتشار الشبكة العالمية والوسائط الرقمية الذكية، كان لا يظفر بنشر نص قصصي إلا من يستطيع النفاذ عبر مسالك وقنوات خاصة، مسالك حزبية، حيث كانت صحافة الأحزاب ذات سلطة إعلامية كبيرة، من قوى اليمين واليسار معا، كانت صحافة حزب الاستقلال : "الرأي" و"العَلم" وملحقه الثقافي الرائد، وصحافة حزب الأحرار وجريدة "الميثاق" أساسا، وجريدة "المحرر" ثم "الاتحاد الاشتراكي" وملحقها الثقافي من صحافة حزب الاتحاد الاشتراكي، وحزب التقدم والاشتراكية وجريدته البيان... وكان الصراع والاستقطاب بينها على أشده، ينعكس في المنظمات الجماهيرية بشراسة، وكانت العضوية في اتحاد كتاب المغرب مكسبا للتيارات والولاءات وليست فوزا للكفاءة بالضرورة... ولم يكن أي نص ينشر بالضرورة متمتعا بالاستحقاق، وفي زمن العولمة وتراجع الاستقطاب طغت الذاتية والفردانية، وازدادت هرولة المثقفين نحو المكاسب والامتيازات، فاتخذ الصراع طابعا ذاتيا هامشيا زاد من إضعاف الحركة الثقافية، والنقد عندنا كان وما يزال مرتبطا بأجندات النقاد الذاتية، وأغلبه نقد مجاملات ومحاباة، والنقد الأكاديمي ضعيف، وهو بدوره تحت إمرة المتنفذين في المؤسسات الجامعية ومعاهد البحوث والدراسات الثقافية والأدبية، يقول محمد صوف أحد أبرز كتاب القصة المغربية "شفرة ذات حدين هذا النقد. قد تذبح الإبداع والنقد معا، أكاد أعتقد أن هذا ما يحصل عندنا، عند تعرض النقد للأعمال الصادرة في بلدنا، النقد عندنا ينطلق من : خلفية إديولوجية... علاقة شخصية مع الكاتب....أحكام جاهزة في الذهن... معلومات يملكها الناقد تدفع به لاستعراض معارفه بعيدا عن النص المدروس" (4)
وفي غمرة هذه المتاهة لا يزال النقد ضحلا وعاجزا عن مواكبة الإبداع، وإبراز النصوص الجيدة، وفرز الغث عن السمين، بل إن كثيرا من هذا النقد لا يتوانى عن دعم وتشجيع أعمال ضعيفة تشوبها أخطاء ونقائص فادحة أحيانا، وهنا انبرى آخرون يسفهون ما يُنشر ويُنكرون الموهبة على من لا يودون ويسبغونها على من يريدون منصبين أنفسهم حماة للإبداع الجيد الأصيل من دون أن يقدموا أية دراسات نقدية علمية وموضوعية للأعمال القصصية المطروحة بساحة النشر، تُشَرِّح العمل وتكشف هناته وضعفه قبل الإشادة به ومدحه.
وعرف العقدان الأخيران زخما إشعاعيا وتأطيريا غير مسبوق للقصة المغربية، تمثل في عدد من الإطارات والتظاهرات منها:
* مجموعة البحث في القصة القصيرة - وتضم أحمد بوزفور وعبد المجيد جحفة ومصطفى جباري- ومجلتها «قاف صاد» ونشرت العديد من المجموعات القصصية والترجَمَات وأقامت لقاءات كثيرة جَمَعَت موادها في كتب.
* «نادي الهامش القصصي» بزاگورة في الجنوب الشرقي للمغرب، وملتقى القصة القصيرة الذي تنظمه سنويا.
*«جمعية النجم الأحمر» بمشرع بلقصــيري شمال المغرب، التي تنشـــطُ من خلال ملــتقاها المهم وجائزتها التي تشجّع الشباب.
*جماعة «الكوليزيوم »، وتضم محمد عزيز المصباحي، محمد أمنصور، محمد شويكة، محمد تنفو، علي الوكيلي، أنيس الرافعي، فوزي بوخريص، وطرحت تصورا موحدا الكتابة القصصية من خلال نصوصها القصصية وبياناتها وندواتها ومراسلات أعضائها ودراساتهم...
*وجمعية التواصل بالفقيه بن صالح، وقد نظمت عدة فعاليات للقصة القصيرة.
*الصالون الأدبي في الدار البيضاء، الذي يهتم بالقصة القصيرة ويُنظّم الملتقيات ويمنح الجوائز.
*ملتقى السرد بأبركان الذي تنظمه جمعية الشرق بمدينة أبركان،
*المهرجان العربي ثم الدولي للقصة القصيرة جدا الذي تنظمه جمعية الجسور الثقافية بالناظور
5- بين القصة والرواية
مما لا خلاف حوله في حقل القصة ونقدها أن هذا الجنس الأدبي فن يقوم على السرد مثل الرواية والسيرة، لكنه بخلافهما يأتي متفرعا إلى أجناس قصصية متدرجة في القصر : قصة، قصة قصيرة، أقصوصة، وإذا كانت الرواية متشعبة الحدث، حافلة بالتفاصيل... فإن القصة تكتفي بحدث قصير، وتحتفي بالتكثيف والاختزال والحذف وزرع الفراغات والبياضات...
ليس مبرر تراجع القصة هو تقدم الرواية التي قال عنها جورج لوكاتش إنها ملحمة العصر الحديث وأن "الرواية هي النوع الأدبي الأكثر نموذجية للمجتمع البرجوازي"(5) ، وقريبا من هذا الطرح أيضا يقول عبد الرحمان منيف: "الرواية هي فن عصرنا وتحولاته المتشابكة" (6)، وكون الرواية متقدمة عالميا فإن هذا ليس معطى مستجدا، بل واقع قائم منذ مطلع القرن العشرين، وفي الحقيقة أريدَ للرواية أن تسود أيضا من طرف صناع قرار النشر والقرار الإعلامي، ولكن عن أية رواية نتحدث؟ هل نقصد تلك التي تكشف تناقضات المجتمع البرجوازي كما تحدث عنها لوكاتش ومنيف، وتبني العقل النقدي لدى القارئ، أم رواية الماركوتينغ المسلية؟
لقد أصبحت الرواية اليوم تميل أكثر فأكثر إلى الوداعة، لا تشاكس ولا تقلق، ولا ترهق ذهن المتلقي بالاستشكالات، تصبو لقراءة مريحة لا بالتشويق فقط، بل أساسا بتقديم التفاصيل والأجوبة لكل تساؤلات القارئ حول مآلات الشخوص والأحداث، فلا تزج به في أية حيرة، حتى المقولات تقدمها له جاهزة واضحة وبأسلوب بسيط، ولا تحاول إتعابه بالتفكير في صياغتها، فالفرد في المجتمع الاستهلاكي اليوم وفي غمرة اللهاث خلف المعيش اليومي تحت سلطة الإشراط الرأسمالي التكنولوجي الرقمي، في حاجة ماسة إلى ما يسليه ويمتعه، وفي غنى عما يكدر صفوه ويزعجه أو يتعبه، يحتاج إلى ما يزيل عنه القلق، لا إلى ما يزيد قلقه، أو بالأحرى أن نسق العولمة ليس عليه إلا أن يشيع ما يهدئ من روع الاستشكال والتفكير، ويهيج العقل النقدي، كي يبقى الفرد تحت رحمة الاستهلاك والتحكم الرقمي، وهذا ما تأخذه الرواية المقبولة لدى دور النشر اليوم بعين الاعتبار تاركة الخوض في الأفكار، متأثرة بأدلوجة سقوط الاستقطاب الفكري، وانتهاء المرجعيات والإديولوجيات، والحال أن هذا أكبر سقوط في اديولوجيا العصر المرتكزة إلى التنميط العولمي والاستهلاك.
إن القصة الموغلة في التجريب المستجيب للشرط الفلسفي- الجمالي لا تشبع فضول القاريء، وتثقل تفكيره بالقلق الذي يعاني منه في الواقع المتسارعة وتائره، في غمرة التحولات التكنولوجية والرقمية، وتعقد الحياة اليومية جراء ذلك التطور، ويهرب الفرد من القلق إلى القراءة، فإذا به يجد القلق متربصا به في أتون القصة، وهذا سبب استبعاد مؤسسات النشر للقصة، وقد يكون هذا من الأسباب التي جعلت الشباب القاريء اليوم يميل أكثر إلى الرواية التي أصبحت ناجزة، تقدم متعة التشويق وتشفي غليل الفضول حول مآل الأحداث وتركيبات الشخوص النفسية وطباعها وأمزجتها، وتريح الأدمغة من صداع الحيرة والقلق ومشقة التأويل، وتتحف القارئ بسيل عارم من المقولات المتجاورة المتناصة، وتميل الرواية اليوم إلى تمكين القارئ من كل شيء بالتفصيل حتى المقولات، بينما تلتقط القصة الحياة بنظرة خاطفة مستفزة محيرة هدفها دفع القارئ إلى إنتاج مقولاته الخاصة، وهنا مكمن صعوبة القصة، حين تقدم استفزازا جميلا للعقل يحقق لذة النص بتعبير رولان بارت : " إذا قرأت جملة، قصة، كلمة بلذة، فلأنها كتبت بلذة حتى مع شكاوى وهموم الكاتب، عَلَيَّ باستفزاز القارئ وتوريطه مهما كان وأينما وجد"(7) ومن النادر أن نجد في الرواية اليوم بياضات تستدعي إعمال الجهد الفكري وما يصحبه من قلق مضن كما في القصة، فإذا كانت الرواية اليوم سردا مانحا للمتعة النابعة من إشباع فضول القراءة وتقديم الأجوبة والمقولات الجاهزة، فإن القصة سرد صعب يكمن تحديه الأكبر في منح المتلقي متعة الدهشة مع الحيرة والقلق وتعليم القارئ الاستشكال من أجل صياغة مقولاته بنفسه.
ويسود اليوم اعتقاد خاطئ مفاده أن القصة أقل شأنا من الرواية، ويساهم في نشر هذا الخطأ مهندسو الماركوتينغ لدى بعض دور النشر، ولا يتحرى بعض النقاد الحذر فتجدهم يتلقفون مثل هذه المغالطة ويروجون لها بمناسبة وبغير مناسبة معتقدين أن القصة معبرٌ نحو الرواية، فيدعون الشباب إلى تعلم السرد الروائي في القصة قبل الانتقال إلى كتابة الرواية، فتراهم يبخسون كتابات الشباب الروائية بدعوى عدم نضج تجربتهم في السرد، فينصحونهم بكتابة القصة أولا، وهذا لعمري سوء تمثل لخصوصيات الأجناس السردية واستقلاليتها واختلاف طبيعة كل منها عن الأخرى، يقول عبد الرحمان منيف في حوار قديم ردا على سؤال الفرق بين القصة القصيرة والرواية : "هناك علاقات داخلية عديدة بين الفنون، واستعارة مستمرة فيما بينهما، لكن يبقى كل فن قائم بذاته ويبقى كل فن قادر على أن يعالج حالات بذاتها وغير قادر على معالجة حالات أخرى، القصة القصيرة مثل سباق المائة متر، مثل البندقية ذات الطلقة الواحدة، ولذلك يجب أن تكون شديدة الكثافة، مركزة، حادة... الرواية سباق المسافات الطويلة، عبور البحر العريض ... تعبّر القصة القصيرة عن تجربة عميقة، شديدة العمق، من خلال التقاط لحظتها الأشد توترا، وفي التقاط زاوية انفجارها الأشد كثافة، ولذلك فهناك بعض القصص القصيرة التي لا تتعدى كلماتها المئات أو لا تتجاوز الصفحتين أو الثلاث، أهم من عشرات أطنان الورق المطبوع عليه عشرات الروايات" (8) ...
تفصح هذه الرؤية لعبد الرحمان منيف عن فهم عميق لفنون السرد، حيث لكل منها أهميته ولكل منها صعوباته، هذا الأمر يشبه القول إن لكل آلة موسيقية خصائصها ومميزاتها، ولكل منها جماليتها وصعوباتها، فلا يمكن استسهال أي منها إلا من ذي معرفة محدودة بهذا المجال، كذلك القصة ليست أقل صعوبة من الرواية، وأصعب ما في القصة أنها اقتناص للحظة منفلتة في الحياة أو إشراقة في الواقع المعقد المتغير دائما، يقوم القاص الماهر بالتغلغل فيها، معتمدا على الاختزال والتكثيف وترك البياضات والفراغات القابلة للتأويل وحفز تفكير القارئ.
6- خلاصة وتوصيات :
يمكننا القول في ختام هذه القراءة لحال ومآل القصة المغربية إن ازدهارها اللافت طيلة العقود الثلاثة الماضية أعقبه الفتور راهنا وغلبة الطابع الكمي على حساب الفرادة والتميز، ودخول التجريب القصصي في متاهة أفقدته بوصلته وأفقه الفكري والجمالي، لكن هذا الفتور يمثل - في تقديرنا - مرحلة تأمل وتفكير في النهوض من جديد بهذا الجنس السردي الذي يحفز القارئ على التفكير ويدفعه إلى العقلانية، ومتعة قراءة القصة الناجحة كامنة في لعبة القص هاته التي تزرع كمّاً من الأسئلة الخلاقة في ذهن المتلقي، وتدفع به عبر القلق والحيرة إلى إنتاج مقولاته بنفسه.
للارتقاء بالقصة المغربية ومن خلالها الاسهام في رقي القصة العربية، نعتقد بأهمية اعتماد المداخل التالية :
✓ استثمار زخم النشر الهائل في جنس القصة، وذلك بإعادة إصدار اللافت منه إبداعا وتميزا.
✓ تطوير تجربة المحترفات السردية في الأندية التربوية بالمؤسسات التعليمية، وفي مختلف أسلاك التعليم وتعميمها على الصعيد الوطني، لما لها من نتائج باهرة في تطوير ملكات الشباب.
✓ إعادة بناء مرتكزات التجريب على أساس رؤيا فنية وربط القصة بأفق فكري وجمالي واضح المعالم.
✓ إعادة النظر في وضع النقد، وإعادة توجيهه وفق تصور موضوعي وعلمي كي يلعب الأدوار المنوطة به في تطوير القصة والإبداع الأدبي عامة.
✓ الحسم في مسألة استقلالية الأجناس السردية وأهمية كل منها بما لا يسمح بسيادة ذهنية المفاضلة بينها.
✓ ارتكاز عمل مؤسسات النشر على مبدأ الملاءمة بين متطلبات القراء والتمحيص في انتقاء جودة الأعمال وتميزها، بعيدا عن الولاءات والمحسوبية، ومن دون استبعاد جنس القصة.
هامش
• قدمت هذه المداخلة ضمن أشغال ملتقى القصة القصيرة الأول الذي نظمته حلقة صدى ذاكرة القصة بمركز سيا بالقاهرة يوم 8 غشت 2022
1- منذ السبعينيات إلى أواخر التسعينيات برز عدد كبير من كتاب القصة من خلال تراكم هائل لمجاميعهم القصصية وعبر النشر بمنابر أدبية وصحفية مغربية ومشرقية، ومن أبرزهم محمد زفزاف، إدريس الخوري، أحمد المديني، محمد زنيير، أحمد زيادي
2- أحمد المديني، "وجه في المرايا" وأزمة النص الواقعي، مجلة آفاق، مجلة دورية يصدرها اتحاد كتاب المغرب، العدد الخامس، يونيو 1980، ص 26
3- محمد إبراهيم بوعلو: خمسون أقصوصة في خمسين دقيقة، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 1984م
4- محمد صوف، غياب الرواية وحضور القصة القصيرة، مجلة آفاق، مجلة دورية يصدرها اتحاد كتاب المغرب، عدد خاص بندوة الرواية المغربية، عدد مزدوج 3-4، دجنبر 1984، ص 120
5- جورج لوكاتش، الرواية كملحمة برجوازية، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى 1979، ص 25
6- نجمان ياسين، حوار مع عبد الرحمان منيف، مجلة الطليعة الأدبية، العدد السابع- السنة الرابعة، تموز 1978، ص 4
7-
Roland Barthes, Le plaisir du texte, Éditions du seuil, 1973, p10
8- نجمان ياسين، نفس المرجع السابق ص 12