التغيير بالفن

 التغيير بالفن



التغيير بالفن ليس مزحة، ولا هو ضحك على الذقون، إذا كان ضمن تصور كبير للدولة - إسوة بالدول المتقدمة - ومن خلالها المؤسسات والجمعيات والأحزاب السياسية... وهو تصور من شأنه أن ينتج مشروعا مجتمعيا قابلا للتصريف، يقوم على استراتيجية ثقافية وفنية بعيدة المدى، تصب في التقدم وبناء المجتمع الديمقراطي الحداثي، لا مجرد نوايا وتصريحات خجولة في التعاطي مع الفن الرفيع عندما يتعلق بالتربية، وهي بمكيال آخر جسورة مبادِرة في إغداق الميزانيات على الفن الهابط.

 والتغيير يبدأ بالتربية، وحجر الزاوية في هذه الاستراتيجية هي التربية والتعليم والثقافة، في عصر العولمة والذكاء الاصطناعي، حيث تهمش الثقافة، وتضيع في التخصص الضيق، وتسيطر الشاشات على أبنائنا، ومن خلالها يطلون على عوالم غريبة فتشرع لهم الأبواب لشتى صنوف التفاهة.

إن ما نعيشه اليوم من انفلات، وسيادة للعنف الذي تعدى أسوار المؤسسات التعليمية نحو الشارع، لا تقدر عليه المقاربة الأمنية لوحدها، ولا حتى المقاربات السياسوية المنفردة المنغلقة عن البعد الثقافي، المحكومة بحسابات ضيقة ومصالح آنية وهواجس انتخابية، سواء في صيغتها الرسمية أو في توجهها المعارض، فهي غير قادرة على تقديم البدائل الفعالة الدائمة التي من شأنها جعل المجتمع ينخرط في سيرورة تحولات عميقة نحو النهضة والتقدم، وكيف لها ذلك وهي تعيش في عزلة عن الواقع؟

إن طرح ضرورة الفن كمنظور للتهذيب والتربية وترسيخ الشخصية المغربية لدى الأجيال القادمة يستدعي إعادة النظر في الخطط الثقافية والتربوية وفي البرامج والمناهج والمقررات الدراسية، بهدف إدماج التربية على الفن في المنظومة التربوية والثقافية، ما يحتم علينا تقييم عقود من الزمن تم التراجع فيها عن محاولات بناء الإنسان المتزن المشبع بالقيم، المعتدل البعيد عن التطرف والانحراف والظلامية.

 لوزارة التربية الوطنية تراث غني في أدبيات التغيير التربوي عبر الفن، يتمثل في مشروع إدماج وتعميم التربية الموسيقية ومشروع قطب الفنون أحيل السيد الوزير إليه، ويرجع إلى حوالي عقدين ونصف، عرف مجهودات كبيرة لترسيخه بالتدرج قبل أن ينسف من طرف حكومة العشرية الثانية لأسباب إديولوجية، فقد كان مشروعا للدولة يرمي إلى التربية بالموسيقى والتشكيل والصورة والمسرح... وما كان على أية حكومة التراجع عليه، لأن ترقية أذواق الأجيال تعطينا مجتمعا راقيا واسع الآفاق عميق الثقافة قوي الشخصية الوطنية.

 ليس من المفيد تهميش الفنون في المنظومة التربوية، لأنها تزرع في  الناشئة روح الابتكار والإبداع وتنأى بهم عن التقليد، وتربيهم على قيم الاحترام والتقدير والنبل بكل معانيه، بل يجب أن تدخل الفنون كمواد دراسية إلزامية بمعامِل محترم يعطي تقديرا عاليا لمكانة الإبداع ويفرض على المجتمع نبذ نظرة الدونية نحوها والتي طالما كرسناها رسميا وشعبيا.

 التربية على الفن هدفها أن يصبح جميع أفراد المجتمع فنانين، ليس بالمعنى الحرفي الساذج، وإنما بالمعنى الذي يجعلهم بناة وطن مبدعين يتمتعون بذائقة عالية وبروح إبداعية وغيرة على الوطن، والذين يزدرون الفن بدعوى ما ينشر من تفاهة، لا يفرقون بين التفاهة والفن، وهم أحوج الناس إلى الفن الرفيع، ومعظمهم واقع ضحية ذهنية التحريم الغريبة عن مجتمعنا المغربي وتاريخنا العريق الذي أعطانا الشخصية المغربية المتفتحة المعتدلة الميالة إلى البناء لا الهدم.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال