ندوة:
جمالية النغم:
تجارب، قضايا وإشكالات
بفيلا الفنون بوجدة / المغرب
عبد القهّار الحَجّاري
ناقد وباحث في علم الموسيقى
احتضنت فيلا الفنون بوجدة ندوة حول جمالية النغم: تجارب، قضايا وإشكالات، ضمن جلساتها الرمضانية، وتحت شعار “من أجل ثقافة جمالية رفيعة” يوم الأربعاء 19 مارس 2025، شارك فيها السادة الأساتذة • محمد حجاوي • عبد القهار الحَجّاري • محمد السعيدي • نور الدين عياد.
وفيما يلي وقائع الندوة:
:::: عبد القهار الحجاري: مرحبا بكم في هذه الندوة التي تتمحور حول جمالية النغم، نثير من خلالها مسألة الجمال والقضايا والإشكالات المرتبطة بالموسيقى المغربية والعربية في ضوء تجارب المتدخلين.
نشكر في البداية مؤسسة فيلا الفنون ومديرها الفنان الأستاذ البكاي المكاوي لحرصه على جمع الفنانين والدارسين من مختلف الفنون في منتج ثقافي وازن.
يشارك معنا عن بعد أ.د. محمد حجاوي متخصص في جمالية الفن، أستاذ التعليم العالي، مدير معهد المهن التمريضية بمدينة الراشدية، وأخصائي نفسي.
ويشارك معنا حضوريا أ. محمد السعيدي وأ. نور الدين عياد، وكل منهما موسيقي ممارس بعدة فرق موسيقية عصرية وتراثية. وأحضر معكم بصفتي (أ. عبد القهار الحَجّاري) مديرا لهذه الجلسة وناقدا باحثا في علم الموسيقى.
أرحب بالسادة الأساتذة المشاركين وبالحضور الكريم من فنانين وأكاديميين ومهتمين في هذا الحديث عن جمالية النغم انطلاقا من مفاهيم جمالية الفن وجمالية الموسيقى خاصة، وفي ضوء التجربة الموسيقية الغنية للمشاركين في نشر الذوق الجمالي، نناقش دور الثقافة في تشكيل الجماليات، كما سنثير إشكالية التعامل مع التراث والعلاقة مع الأجيال الصاعدة: استمرارية أم انقطاع؟ في علاقة بالموسيقى الرقمية والذكاء الاصطناعي في هذا العصر الرقمي.
لا شك أن البيئة الاجتماعية الموسيقية تلعب دورا حاسما في توجيه الفرد الناشئ صاحب الميل والذكاء الموسيقي نحو مناهل النغم فيسعى جاهدا لمقاومة الصعوبات والعراقيل للظفر بزلال هذه المشارب، سنبدأ بتدخل نور الدين عياد ثم محمد السعيدي، لوضعنا في صورة نشأة الموسيقي في مجتمع لم يتقدم بعد في تقدير جمالية الموسيقى.
:::: نور الدين عياد: تشرفت بالحضور والمشاركة معكم، وأتشرف بمعرفة الدكتور محمد حجاوي المتخصص في الجماليات ومدير معهد المهن التمريضية بالراشدية، وأحب أن أشير إلى انتمائي إلى قطاع التمريض، فأنا ممرض مجاز من الدولة، وعشقت الموسيقى مبكرا، أنا ابن حي "الجامع الكبير" قرب الصنابير الثلاثة (تلت سقاقي) هناك ولدت، بالمدينة العتيقة، دخلت مدرسة سيدي زيان وهي أول مدرسة عصرية بالمغرب أسسها الاستعمار الفرنسي، وكانت تسمى بالمدرسة الحضرية الفرنسية - المغربية، ثم أصبح اسمها مدرسة سيدي زيان، درستُ على يد جزائريين وفرنسيين، أنا ابن المدينة القديمة بوجدة التي كان بها فنانون كثر، أولهم الشيخ دندان، الذي تأثرت به، وهو يعيش حاليا بكندا في سن متقدمة، نذكره بخير ونرجو أن يمتعه الله بالصحة والعافية وطول العمر.
كان لي أصدقاء أصبحوا موسيقيين مشهورين مثل الشاب ميمون والشاب كمال، صالح الملحاوي، الطاهر جيمي، الصفريوي عازف الكمان الذي كان أول موسيقي من وجدة درس في القاهرة، وهو من عائلتي، كنا نلعب في الصغر معا وكان مولعا بالكمان، وكان عمري سبع سنوات عندما بدأت أتعرف عالم الموسيقى صحبة الصفريوي، وبدأت بآلة السويسن، وشيئا فشيئا تشجعت وشرعت أعزف الكمان، والتحقت بمدرسة الفنون الجميلة التي كان مقرها بمحاذاة السوق العصري المغطى، قرب المقر الحالي للكنفدرالية الديمقراطية للشغل، وكان الفرنسيون يتلقون تعليما في الموسيقى الكلاسيكية والرقص العصري (الباليه)، وكانت تديره مدام بناجي، وكان الشيخ صالح بالمعهد، يدير القسم العربي، حين التحقت به، وخلَفَه الشيخ إبراهيم ثم الشيخ أحمد الزموري، وكنت أول عهدي بالمعهد قد تعلمت من قبل عزف بعض الجمل على الكمان، فلما رأتني مدام بناجي أُمسك الكمان شجعتني على العزف أمامها، وعندما كانت تهم لمغادرة المغرب نحو بلدها فرنسا، سنة 1970 وكان عمري 12 سنة طلبت مني أن تأخذ موافقة والدي لأرافقها إلى فرنسا، لأتابع دراستي الموسيقية هناك لكن والدي كان محافظا يرفض الموسيقى، ولم يعرف أنني أدرسها إلا عندما بدأت أرافق الفنان دندان إلى حفلات الأعراس ولم تكن بحوزتي آلة كمان، فقال لي سي دندان: أشتري لك آلة كمان وأخصم لك من أجرتك وأجرتي معه كانت 25 درهما وقيمة ذلك الكمان آنذاك 120 درهما.
:::: ذ. محمد السعيدي: أود أن أشكر في البداية فيلا الفنون التي أتاحت لنا فرصة هذا الحديث في جمالية النغم. تشربت الموسيقى الرفيعة منذ نعومة أظافري، وأنا من جيل صنع آلاته الموسيقية بنفسه من أدوات بسيطة، فكانت تلك الآلة الاعتباطية التي كنا نصنعها من علب قصدير وخشب ومسامير وأوتارها من أسلاك حصار الدراجات الهوائية، هكذا استهواني النغم، ومارسته بشكل بدائي، ولا يمكن أن أنسى ظروف حصولي على أول آلة موسيقية، كانت نقلة بالنسبة لي من تلك الآلة الاعتباطية التي كنا نسميها (السنيترا) إلى آلة حقيقية.
أنا أنتمي إلى جيل حُرم من المعاهد الموسيقية، والفضل في تكويني الموسيقي يرجع إلى الجمعيات التي كانت تنشط في دور الشباب التي لعبت دورا هاما في تنمية مواهب الناشئة، وبما أنني من أبناء حي "لازاري" فقد التحقت بدار الشباب ابن رشد، ولم يكن الأساتذة هناك على تكوين موسيقي أكاديمي، إنما كانت مهاراتهم ومعارفهم الموسيقية متبلورة بالسماع والحفظ والتدريب، في ألوان موسيقية متنوعة، سواء في الأندلسي الغرناطي أو في الموسيقى العصرية، تلقينا عنهم متون الموسيقى تلقينا وتمرينا، وكانت مجهوداتهم جبارة بالنظر إلى تواضع تكوينهم النظري والبيداغوجي، وتتلمذت على يد أساتذة أبرزهم المرحوم الشيخ أحمد الزموري، وتأثرت بهم، ثم تدرجنا في عدد من جمعيات الطرب الغرناطي، وقدمنا عدة مشاركات، ولا زلنا مستمرين مع عدد من الجمعيات منها جمعية ابن الخطيب التي يرأسها د. أحمد طانطاوي وجمعية سي الزگراري نرجو له الشفاء العاجل.
:::: عبد القهار الحجاري: يتشرب الفنان جمالية الموسيقى في بيئة اجتماعية لا تقدم كل التشجيع للناشئة على ممارسة الفن، مثلما هو الحال بالنسبة إلى جيلنا، وكما تفضل نور الدين عياد ومحمد السعيدي من خلال نشأتهما الفنية، لكنها بيئة موسيقية بامتياز، إذ كانت هناك ثلة من الشباب المولع بالموسيقى وكان النغم في كل مكان يعلو من المذياع والحاكي ثم التلفاز وفي سوق أشرطة التسجيل السمعي، وكذا في الحفلات العائلية كالأعراس، وكانت السنيما أيضا تعرض ألوانا من الموسيقى، علاوة على حلقات الذكر والترتيل والأمداح النبوية وفضاءات الجمعيات الموسيقية الغرناطية بوجدة، خاصة دور الشباب، بالرغم من غياب المعاهد الموسيقية في ذلك الوقت، فقد كانت بيئة غنية تشيع نوعا رفيعا من التربية على جمالية النغم، نبقى في هذه الجمالية وننتقل إلى د. محمد حجاوي.
:::: د. محمد حجاوي: يسعدني أن أشارك معكم في هذه الندوة التي اجتمع فيها الممارسون بالباحثين والأكاديميين وعاشقي الموسيقى، ويؤكد حديثكم عن النشأة الموسيقية أن للموسيقى تأثير كبير في ذائقة المجتمع، ومن المؤكد أن للموسيقى جماليتها في هذا العصر أيضا، الجمالية علم، والموسيقى ليست فقط ذلك الانسجام بين النوتات، والتفاعل بين النغم والإيقاع والإدراك البشري، حيث تتحول الذات في التجربة إلى حالة وجودية، تتجاوز المادة، بل هو أوج الانسجام، فيه تُختزل المشاعر، ويعاد تشكيل الوعي، وذلك عبر تظافر الإيقاع باللحن، وبصيغة أخرى جمالية الموسيقى هي ذلك العلم الذي يدرس الأبعاد الفنية والعاطفية والفلسفية التي تجعل الموسيقى فنا مؤثرا وغنيا بجماليته، ولذلك فنحن نبحث في كيفية إدراكنا لجمالية الموسيقى، وفي كيفية تأثيرها على المشاعر، كما نبحث في العلاقة بين البيئة الموسيقية والتجربة الإبداعية.
اللحن هو العمود الفقري لجمالية الموسيقى حيث يتكون من تسلسل للنغمات بطريقة تجعله مثيرا للمشاعر ويبقى عالقا بالذهن، حيث التناغم يؤدي إلى الإحساس بالانسجام، كما تعمل التوافقات القائمة على الانسجام والتنافر المقبول في عمق العاطفة الإنسانية، على خلفية الإيقاع، وهو الذي يحدد الطاقة الموسيقية ونوع الاستجابة الجسدية في التلقي، عن طريق الاهتزاز والرقص والتأمل والانتشاء... بينما يعطي الطابع الصوتي لكل آلة ولكل صوت جيد بشري في الأداء إحساسا خاصا، فلكل طابع صوتي جماليته.
أما ما يخص العلاقة بين جماليات الفنون خاصة التشكيل والشعر، فهناك فروق بينها - طبعا - ويوجد فرق جوهري بينها يتمثل فيما نسميه بالوسيط، فالتشكيل يعتمد على الفضاء المادي من لوحة وألوان وأدوات خاصة ودعامات وتقنيات تدرك جماليتها بصريا، بينما الموسيقى تجبرنا على الانخراط في رحلة زمنية متسلسلة.
أما الوسيط في الشعر الذي يحمل جماليته فهو اللغة اللسانية، لكنها لغة خاصة تقوم على الاستعارة والرمز، ولها قاسم مشترك مع الموسيقى، يسمى بموسيقى الشعر التي تظهر في الإيقاع، ولذلك ارتبط الشعر بالموسيقى، فهو يعبر عن المعاني الإنسانية التي تتغلغل في عمق النفس الإنسانية عبر التلقي والحفظ والتذكر، فترتبط القصائد بلحظات فرح أو ترح وبذكريات تتداخل فيها المشاعر الإنسانية، لكن مهما بلغت اللغة اللسانية من دقة في التعبير، يبقى تغلغل الموسيقى في أعماق النفس البشرية أعمق وتأثيرها أقوى وقدرتها على التعبير عن مكنونات النفس أكثر سحرا وإبهارا.
يجد هذا التغلغل الموسيقى في أعماق النفس امتداده في سلوك المرء المتشرب لهذا الجمال، فيصير خلوقا وصاحب ذوق رفيع متمتع بقدرات الإنصات والاستيعاب... وهي من فضائل الذكاء الموسيقي.
:::: ذ. نور الدين عياد: في نفس السياق، أشير إلى أن قيمة الفن الموسيقي تختلف بين مجتمعاتنا والمجتمعات الأوربية، والتربية على جمالية الفن ترسخ القدرة على الإنصات وتقدير النغم، لقد شاركت بملتقيات موسيقية كثيرة، داخل الوطن وخارجه مع أجواق للطرب الغرناطي ومع فرق موسيقية عصرية، لكن ما أثار انتباهي في أوربا التقدير البالغ للموسيقيين والاحترام الكبير للفنانين، ونحن لا نزال بعيدين عن هذا المستوى، وهناك عندما نقدم عروضا بالقاعات والمسارح مهما كان عدد الجمهور، فإن ما يجعلني أشعر بالفرق في التربية الموسيقية التي اكتسبتها مجتمعاتهم هو درجة الإنصات والقدرة على إرهاف السمع أثناء العروض الموسيقية، وهو ما يجعل الفرد قادرا على تتبع تفاصيل المعزوفات والمواد الموسيقية الغنائية المقدمة، وهم يعبرون عن الثقافة الموسيقية العميقة التي تشربوها منذ نعومة أظافرهم، حيث عشنا لحظات في العزف أحسست فيها شخصيا بارتياح كبير، وأكثر من ذلك شعرت بعظمة تلك اللحظات وبالمسؤولية البالغة الملقاة على عاتقي في توخي الدقة والتعبير والأداء المطلوب، فتجد الناس متفاعلين معنا على هامش العروض يتساءلون ويبدون ملاحظات وتعليقات تبين مدى انتشار التذوق الموسيقي والقدرة على استيعاب وتحليل المواد الموسيقية المقدمة على الخشبة، وهذه تربية درجت عليها المجتمعات الغربية، خاصة عندما تُقدم لهم موسيقى شعب آخر وثقافة أخرى، فإنهم يبدون اهتماما كبيرا لاكتشافها ومعرفة خصوصياتها، ومحاولة تذوقها، أما عندنا فسنحتاج إلى مجهودات كبيرة ووقت طويل لترسيخ جمالية الموسيقى في مجتمعنا، حيث لا يزال الموسيقي يستحيي أن يحمل آلته في الشارع، خاصة إذا كان في مثل سني.
:::: ذ.محمد السعيدي: سأنطلق مما انتهى إليه تدخل د. محمد حجاوي في حديثه عن جمالية الموسيقى وعلاقتها بالشعر، وأود أن أضيف نقطة هامة تتعلق بوجود علاقة بين الإيقاع الذي يستخدمه الملحن للقصيدة وإيقاع هذه القصيدة، خفة وزن النص الشعري تملي على الملحن الاعتماد على إيقاع خفيف يناسبها، فلا يمكن أن نجد إيقاع الدوكاه (مثلا) في لحن لقصيدة على بحر الطويل، وكان الفقهاء يهربون إلى الرجز لخفته، وسهولته في حفظ المتون، فالشاعر يفرض على الملحن نوع الوزن من حيث الخفة والثقل، وفي الموسيقى المغربية عُرف عبد القادر راشدي بتطويع ميزان ستة - ثمانية المغربي ليلائم حالات الخفة، كما استعمل ألوان الإيقاع العيساوي والشعبي والأندلسي وحتى إيقاع الرگادة... كاستعماله البطايحي الأندلسي في أغنية الحياني (وقتاش تغني يا قلبي)، وكذلك في أغنية نعيمة سميح (غاب علي الهلال)، واستعماله السماعي في أغنية (من ضي بهاك) للحياني... فقد كان عبقريا في الإيقاعات. والزجل فيه الخفيف والثقيل أيضا، وهناك شعراء قصائدهم غنائية مثل كامل الشناوي، فعلاقة الشعر باللحن من حيث الإيقاع والصور الشعرية علاقة وطيدة، وكذلك هي نفس العلاقة الموجودة بين الفنون الثلاثة: الموسيقى والشعر والتشكيل. أما غياب البوليفونية في الموسيقى العربية فراجع إلى تركيزها على جمالية صوت المؤدي، حيث الموسيقى تكون خلفية لصوت المؤدي، فالمصاحبة الموسيقية نفسها عند أم كلثوم تكون باهتة أثناء غنائها، ولا يمكن للعزف أن يصاحبها بنفس القوة فما بالك بالقيام بتنويعات بوليفونية وهي تغني. فالموسيقى الشرقية في الغناء لا تتعدى وظيفة المصاحبة، بينما البوليفونية في الموسيقى الغربية مطلوبة لذاتها، وهي موسيقى عالمة موجهة للنخبة.
أما بالنسبة لربع النوتة فهو مختلف مثلا بين الراست والسيكاه والهزام حيث درجة (مي) تختلف بحسب الكومات، ونفس الاختلاف موجود في الكومات بين الحجاز التركي والحجاز العربي، درجة (مي) نصف بيمول في البياتي هي الكومة الوسطى، وفي البعد الكامل تسع كومات ونصف البعد الغربي أربع كومات ونصف، بينما في الموسيقى العربية نصف البعد مختلف يتكون من أربع كومات أحيانا وأخرى من خمس كومات، (فا) دييز عند العرب قريبة من الصول، فبينهما أربع كومات، وليس هو نفس (فا) دييز الذي في مقام الصبا، فالكوما جزئية صغيرة في البعد، لكن أذن الموسيقي تميزها.
:::: د.محمد حجاوي: أعتقد أن المونوفونية في العصر الحديث، لم تجعل من الموسيقى العربية أو المغربية مجرد صدى للمغني، بدليل روائع المقدمات الموسيقية، والارتجالات الفذة وإبداعية العازفين وعظمة الكثير من الألحان التي اشتهرت بين الجمهور، هذه ملاحظة، لكنني أريد أن أتوقف قليلا عند نقطة هامة تتعلق بالثقافة الموسيقية، وهي بالمعنى العام تحيلنا إلى تنوع الموسيقى في العالم، لكن ما نقصده بالثقافة في جمالية الموسيقى يتمثل في العلاقة بين الصوت والوجدان، وما نعتبره جميلا موسيقيا ليس قيمة مطلقة، بل هو تفاعل معقد بين التاريخ والذاكرة الجمعية، فنحن نتذكر، نتخيل ونعود أدراجنا إلى لحظات في الزمن ذات مسحة معينة وطابع ونكهة خاصة لثقافة اجتماعية ما، المقامات العربية، فيها مجموعة من الانزياحات الدقيقة، خاصة الحاملة لربع النوتة مرتبطة ببيئة اجتماعية تاريخية، وبطقوس وعادات وفهم خاص للحياة، مقام البياتي - مثلا - لا تستسيغه الأذن الغربية، وتعتبره نشازا، لأنها تفتقد إلى ذلك المفتاح الثقافي الذي نملكه لفك الشفرات العاطفية لهذه الموسيقى وتذوق هذا المقام، والآلات الإيقاعية المغربية تحيلنا إلى غنى الإيقاع المغربي، في حفلات شعبية وأعراس ومناسبات، فالآلة الموسيقية رمز للثقافة الموسيقية، وليست مجرد آلة، وكذلك الإيقاعات المحلية، فالثقافة الموسيقية مجموعة رموز وطقوس مرتبطة بالوجدان الجمعي، ورموز الثقافة راسخة في مخيالنا، وكل ثقافة تعبر عن نفسها من خلال جماليتها الموسيقية، فنحن بموسيقانا نعبر عن همومنا وأفراحنا وكينونتنا وقلقنا الوجودي بكيفيات معينة.
إن تَلَقّي جمالية الموسيقى رحلة وجودية تبدأ بالأذن، لكنها لا تنتهي بالدماغ، بل تمتد عبر الأعصاب إلى أعماق النفس البشرية، لنعط المثال في ثقافتنا الموسيقية بالصوفية وبحلقات الذكر الصوفي، حيث الموسيقى يحتضنها الدين لتحرير الجسد من الماديات عبر ملكة الصوت والتأليف اللحني والتعبير الإيقاعي... فالموسيقى فن لا يمكن أن يقوم على التقنية لوحدها بل لا بد له من روح تنشأ من خيمياء النغم والإيقاع، لتصل إلى انتشاء صوفي، قد نسميه طربا أو تعبيرا عن الأحاسيس الإنسانية، يتحقق معها التطهر والصفاء الذهني والراحة النفسية.
مما لا شك فيه أن كل موسيقى تمثل زمنها، وكما أن موسيقى الأجيال السابقة كذلك مرآة لعصرها، فإن موسيقى التكنولوجيا الرقمية هي مرآة لعصرها، وتحمل إمكانات هائلة تحاول بها إعادة تشكيل مفهوم الجمال وفق رهانات أخرى، فالبيان الإلكتروني -مثلا- لم يكتف بمحاكاة أصوات الطبيعة بل شرع أبوابه لعوالم نغمية كبيرة لم يكن بإمكاننا أن نتخيلها من قبل مع البيان التقليدي، ومن المؤكد أنه أحدث تغييرا عميقا في صياغة مفهوم الجمال الموسيقي بفسح المجال أمام إمكانات جديدة في التعبير والتوزيع وحفز الخيال وابتكار الألحان... كما أن الذكاء الاصطناعي اليوم قد دخل بقوة في صناعة النغم، لكن الخطر -عندي- ليس هنا بل في الانزلاق من الإبداع إلى مفهوم السلعة الذي يخضع لمنطق الاستهلاك السريع عبر المنصات والتطبيقات ومواقع التواصل المختلفة، تختزلها في جمالية موهومة باهتة، هدفها الإثارة الفورية، في مقابل التعمق في البنى اللحنية المعقدة، وقد تحدثتم عن المنجز اللحني عند عبد القادر راشدي وغيره، وكيف كان التلحين يقوم على ثقافة عميقة هي أساس تلك التراكيب اللحنية الثرية التي تتغلغل في أعماق النفس، وتجد لها أثرا في تهذيبها أي في إعادة تشكيل الوعي وترقية السلوك، كما أكد ذلك فلاسفة العرب كالفارابي وابن سينا...
الذكاء الاصطناعي اليوم يقوم ببناء الألحان اعتمادا على البيانات التي بحوزته، هل بإمكانه أن يخرج من دائرة الافتقار إلى الروح الإبداعية التي هي سمة بشرية؟ والإبداع الموسيقي يقوم على الثقافة الموسيقية لكل جماعة بشرية، يمكن أن نستحضر صورة راقصين أجانب على موسيقى عربية أو أمازيغية، المصاحبة هنا يحس المتلقي بأن فيها ضعف تعبير وسوء توافق وضحالة انسجام ونشاز، بينما لو أحللنا الراقصين الأجانب بآخرين من نفس ثقافة هذه الموسيقى، لنجحت المصاحبة الكوريغرافية، لأنها تعبر عن هشاشة إنسانية في سياق ثقافي، وعن إحساس صادق، هذا المثال ربما يصدق على ما يمكن أن يفعله الذكاء الموسيقي الاصطناعي بموسيقات الثقافات المختلفة. ولا يمكن أن تحل الآلة الرقمية محل الإنسان، فقد يحاكي الذكاء الاصطناعي موزارت ولكن هذه المحاكاة ستعوزها دائما روح موزارت.
:::: عبد القهار الحجاري: يوجد خيط ناظم بين مداخلاتكم، يجعلني أتساءل عن إمكانية استفادة الأجيال الجديدة، في العصر الرقمي، من التراث الموسيقي والعمل على تطوير الموسيقى المغربية والعربية باستلهام روح الخصوصية النغمية والإيقاعية، حيث التثاقف الموسيقي بين الشعوب صار متاحا أكثر من أي وقت مضى، لكن أيضا يمكننا الحديث عن التأثر السلبي بالموسيقى الوافدة كشكل من أشكال المثاقفة الموسيقية التي تحضر فيها هيمنة الآخر، واستهلاك الذات لما يطرح في الشبكات ومواقع التواصل الاجتماعي والفضائيات يكون فيه التلقي بعيدا عن العقلانية، ويزج بها في أتون الاستلاب.
وعندما نفكر في التراث الموسيقي المغربي نجده زاخرا بثراء منقطع النظير بين أمازيغي وعربي، بدوي وحضري، عصري وتقليدي، شعبي وعالِم... تبرز فيه البنية المقامية والتشكيلات الإيقاعية غاية في التنوع والروعة ضمن ثراء الطقوس والعادات واللهجات، وتعدد القوالب والألوان الموسيقية، هناك رقصات أحواش وأحيدوس والگدرة والعلوة والعلاوي والشگوري وأغاني العيطة والطقطوقة والصف والرگادة ولالا-بويا... إلى جانب الملحون وطرب الآلة والطرب الغرناطي والسماع الصوفي والگناوي الذي دخل العالمية من بابه الواسع، كيف يمكن إحداث طفرة موسيقية مغربية في غمرة الاكتساح الرقمي، لا تقوم فقط على الحفاظ على هذا الموروث الثر، بل تتعدى ذلك إلى تحقيق نهضة موسيقية على غرار نهضة الموسيقى العصرية المغربية في النصف الثاني من القرن الماضي؟ هذا ربما سيحتاج منا اليوم إلى إعادة الاعتبار للموسيقى في مجتمع صار يميل إلى الرزوح تحت نير ذهنية التحريم، وذلك عبر رد الاعتبار للتربية الموسيقية التي بذلت الدولة في سبيل تعميمها في التعليم مجهودات جبارة أواخر القرن الماضي وبداية الألفية الثالثة قبل أن يجهض هذا المشروع بسبب إرادات إديولوجية معادية للفن.
إن تربية المجتمع على الذوق الموسيقي الرفيع من شأنه أن يُعِد المواطن الصالح المعتدل القادر على تمييز القبح وإشاعة الجمال وتحقيق النهضة، ولا يتحقق انخراط الموسيقيين في هذه الطفرة الفنية التي تبرز فيها الشخصية المغربية (تامغرابيت)، إلا بخلق مسالك علمية للبحث في علم الموسيقى بالجامعات، تنكب على دراسة الموسيقى المغربية والتراث الموسيقي المغربي، وتُعِد موسيقيين عالِمين يستفيدون من خبرات القدامى ويستطيعون وضع أسس الابتكار والتطوير، في مواجهة النمطية والتقليد والرداءة وتفاهة المنتج المسيطر في الواجهة الرقمية.
تمت