اللغة وتأويل القصة
د. زكية العقوري
ليبيا
سألج (ليلة هلع عند ناهد) من باب اللغة، ولاشك أننا في هذا النص نقف أمام قاص مثقف عارف بتطور القصة، فهو يوظف ثقافته ومعارفه لتقديم آرائه ورؤاه، وهو لا يغرق في الفانتازيا وإن اقترب منها، فهو يقارب الواقع من زاوية غير مألوفة، لأنه مهما أغرق في التصوير فإنه لا يبرح الواقع، هكذا قرأت القصة.
اللغة هي أداة الأديب لنقل تصوراته كيفما كان اتجاهه وانتماؤه ومنطلقاته الأدبية، لأنها مفتاح ولوج القارئ إلى النص، من هنا، تأتي مساهمتي لقراءة هذه القصة، وما كشفت عنه اللغة من دلالات واختيارات، من خلال المفردة السردية والتراكييب، ثم النظر فيما سكت عنه القاص، فخلف هذه الاختيارات الظاهرة دلالات خفية في العمق.
للألفاظ دلالات وإيحاءات تحيلنا على المساحات البيضاء في القصة التي تتألف من مشاهد تكون كُلا، وتتألف جزئياتها في لوحة متكاملة، وكأننا أمام مسرحية أو فيلم سينمائي، الشخوص والأصوات والحركات والألوان تتظافر لتشكل الصورة الكلية للقصة.
تظهر المشاهد من خلال فقرات النص، وسأكتفي بالتطرق لبعض المشاهد كأمثلة لتحليل النص الذي بين أيدينا (ليلة هلع عند ناهد).
* المشهد الأول مشحون بالألفاظ والتراكيب التي تفتح باب التأويل أمام المتلقي على مصراعيه، فيها اضطراب وقلق، فيها بؤس وفيها ندم واضح، بسبب فعل لم تحسب عواقبه (أردت أن آكل شيئا فقط)، إنه فعل يقع في دائرة المحظور؛ فعل الدخول إلى المكان، ويترك السارد مساحة التأويل للقارئ، كل بحسب الزاوية التي ينظر منها، أو بحسب ميوله ودوافعه النفسية، هناك ألفاظ بعينها تشكل مفاتيح للقراءة، يحرص الكاتب على تكرارها بصيغ مختلفة، في صورة أفعال ماضية غالبا، مضارعة أحيانا، وفي صورة مصادر أومشتقات، وحروف كالواو... (ما الذي ورطني تلك الورطة؟)، وهناك صيغ انفعالية (تبا لغبائي!)، تتكرر مادة (أ.ك.ل) في كثير من مشاهد النص، ورمزية القطار ترتبط برحلة الإنسان في الحياة، والسفر الطويل الموحش، خاصة أن هذا القطار يلفظه لفظا (لفظني..) وتتكاثر في النص ألفاظ مثل الوجود، البؤس، الليل الحالك، الليلة المظلمة، معتقل رهيب، لتكون مفاتيح فهم القصة.
* المشهد الثاني يبدأ بالتركيب الشرطي (لو كنت فكرت قليلا ما كنت دخلت ولا تورطت هذه الورطة )، ولا يخفى تكرار (الورطة) بصيغة الفعل، وفي هذا التكرار دلالة على الندم، ويؤكد النحويون أن من معاني استعمال (لو) الشرطية الندم، وتأتي الجمل الخبرية الواصفة لتغلب عليها ألفاظ الهلع، وهذه الكلمة تتكرر في النص، وبينما غلب الصمت في المشهد الأول ظهر الصوت في المشهد الثاني: الموسيقى الصاخبة، قعقعة ااصحون، ثرثرة النساء والرجال وقهقهاتهم، وهذه من الألفاظ المحاكية يوظفها الكاتب في الوصف (قعقع، ثرثر، قهقه...) فأصواتها تحاكي دلالاتها، ويتعزز المشهد بالأضواء الخافتة، وكذلك الأشكال غير المنتظمة والروائح.
* في المشهد الثالث تنامي الهلع والحيرة يصحبه تصاعد الحركة، يكتنف هذا المشهد بعض الغموض، إذ تختفي التساؤلات التي كان يطرحها السارد في المشهدين السابقين، وعندما ينغلق الباب وتفوت السارد فرصة الانسحاب من المكان يتأكد الندم. عند ظهور (ناهد) تنكشف مغالق النص، تأتي بصفات جسدية تتناغم مع هذا الاسم الذي لم يأت عبثا، بحركاتها الغريبة وغموضها الذي يرتسم في وجهها الباهت، ما يعزز الخوف والرعب الندم وغياب الملامح والحيرة التي تجسدها عبارة المفتتح والمختتم (... لم أدر ماذا حدث بعد ذلك).
#قصة_أونلاين #ظلال_وقطوق #ليلة_هلع_عند_ناهد