الفشل الدراسي أم فشل النسق التربوي؟
عبد القهار الحجاري
يتسم البحث الأكاديمي بالغزارة في موضوع الفشل الدراسي في الأنساق التربوية الناجحة، من منطلق الحرص على النجاح والخوف من التراجع، حتى صار الموضوع هاجسا مؤرقا في مجتمعات تتمتع بالنماذج البيداغوجية المائزة، بينما الفشل الدراسي مرادف لفشل المنظومة برمتها وهو قاعدة ثابتة ومضطردة، نتيجة اختلالات كبرى في نظام التربية والتكوين، ولا يطرح كموضوع أكاديمي -عندنا- إلا استثناء وعرضا.
الفشل الدراسي ظاهرة طبيعية في نسق تربوي ناجح، باعتبار الفشل حالات معزولة نتيجة عوامل طارئة أو خاصة غير أساسية وغير قارة، ويتمثل في مواجهة المتعلم صعوبات كبيرة في الاكتساب والتحصيل وعدم توفقه في التمكن من المعارف والمهارات والقيم وتطوير القدرات اللازمة، ما يؤدي به إلى الرسوب وعدم القدرة على المواكبة، ويؤدي هذا الفشل إلى الانقطاع عن الدراسة بدون الحصول على المؤهلات الأساسية، ومغادرة المؤسسة التربوية بدون شهادات، أو الحصول على شهادات لا تناسب مستواه الحقيقي في نسق فاشل متصالح مع ظاهرة الغش.
الفشل الدراسي أكبر واخطر من التعثر الدراسي، وهذا الأخير حالة من الارتباك وعدم القدرة على ضبط حلقة من حلقات التعلم يمكن أن يتعرض له أي متعلم، لكن يمكنه تجاوز هذا التعثر بجهد ذاتي أو بتدخل المدرسين أو أولياء الأمور المتابعين لأبنائهم عن كثب، و"يمكن أن يؤدي تكرار التعثر الدراسي واضطراده في سير التعلم إلى فشل دراسي" (الدريج، ص4)
يعد الفشل الدراسي أبرز وجه لفشل النسق التربوي ونتيجة حتمية له في التجارب التربوية المأزومة التي تعاني من اختلالات مزمنة وبنيوية، وغالبا ما يكون هذا النسق غير عقلاني بل يكون نقليا اتباعيا وتابعا، يعمد إلى تقليد نماذج في دول الشمال، وهي التي لا تستكين ولا تطمئن لمقاربة أو طريقة أو منهاج، أو نظرية، فنلاحظ انتقاد الأوساط الأكاديمية عندهم للمقاربة بالكفايات وربطها بالفشل الدراسي، في منطقة الكبيك بكندا يؤكد الباحثون المشاركون في ندوة علمية حول "الوقاية من الفشل الدراسي: إعادة تحديد المفهوم" أنه حصل "تراجع في نتائج التحصيل سنة 2006 في مهارات القراءة والكتابة، والسبب الرئيسي يرجع إلى اعتماد المقاربة بالكفايات، بينما تمثل القراءة والكتابة الحد الأدنى للحق في التعلم..." (مارتيني، وآخرون ص 20).
إذا كانت التبعية والاتباعية والنقل سمة النسق التربوي ببلادنا، فإن هذا التقليد يأخذ ما يطرح في التصورات والمقاربات ولا يحتذي بالتجارب الناجحة، والتجربة الفلنندية - على سبيل المثال، وهي من التجارب الرائدة في التعليم بأوربا- تقوم على إجراءات عملية كبرى أهمها: إلغاء الهرمية والقرارات البيروقراطية الفوقية، التكفل الفوري بالمتعلمين المتعثرين ودعمهم نفسيا ومعرفيا قبل أن يسقطوا في الفشل الدراسي، والتقيد بدراسة حاجيات التلاميذ فردا فردا والقضاء على الاكتظاظ بالرفع من أعداد المدرسين. (مارتيني وآخرون، ص 22)
عندما يصبح الفشل الدراسي ظاهرة لافتة يكون نتيجة اختلالات كبرى وتداخل عدة عوامل نختصرها في النسق التربوي، ولا ينفصل هذا الأخير عن النسق الاجتماعي والسياسي والثقافي، ما يجعل المجتمع متورطا في تكريس هذا النسق الملائم للثقافة السائدة التي لا تزال بعيدة عن تطوير البنى الذهنية، فتعادي الإبداع وتكرس الاتباع وتتلهف لنجاح سطحي قائم على نظام تقويم فاقد لكثير من المصداقية، ثقافة سطحية كل ما يهمها أن تسير الأمور ظاهربا بشكل "صحيح" حتى وإن كان الظاهر يخفي الكوارث، ثقافة لا تعترف بالصحة النفسية للأطفال والمدرسين والأعوان والعاملين والأطر الإدارية، ولا تعترف بالفن إذ تجهل وظائفه التربوية والتنويرية، ثقافة الأحكام المسبقة والتصنيف والإقصاء والتهميش والمكيدة...
ومن هنا يتجاوز مفهوم النسق التربوي السياسة التعليمية ومخططات الحكومات وبرامج ما يسمى بإصلاح التعليم إلى ما هو أشمل وأعم وأعمق؛ إنه النسق التربوي المتجذر في بنى المجتمع والدولة ومؤسساتهما على حد سواء، وهو خاضع بدوره للنسق الثقافي المتحكم في رؤانا ومسلكياتنا التربوية المغرقة في التقليدوية والبعيدة كل البعد عن معطيات العلم والعقلانية.
ظلت خطة "الخريطة المدرسية" ومنذ انطلاق سياسة التقويم الهيكلي سنة 1985 متحكمة في نسب النجاح العالية من دون استحقاق في كثير من الأحيان، ومن دون التمكن من المهارات والقدرات والمعارف والقيم الأساسية والمطلوبة في كل مستوى أو سلك دراسي، وهو ما يمثل أحد أبرز الاختلالات في النسق التربوي المغربي.
إن العجز عن تحقيق المردودية المرتقبة، أمام الاكتظاظ والتعثر في التحصيل والتوزيع غير العادل للصفوف الدراسية والسير المتباطئ والمرتبك للأداء التربوي، والعنف الرمزي والمادي، والاحتقان الصفي، والتغاضي عن الغش بل وتشجيعه، واختلال العلاقات التربوية أفقيا بين المدرسين والمتعلمين وفيما بينهم، وعموديا مع الإدارة التربوية، وتحول صورة المدرسة في تمثلات المجتمع.. كل هذا وكثير مما لم نذكره مجرد تجليات سطحية للفشل الدراسي حيث يتخفى النسق التربوي، ويظهر المسؤول الأول إما كتلميذ مهمل أو كأسرة مستقيلة من مسؤولياتها أو متهافتة خلف التباهي في سباق محموم يكون الهدف منه هو العلامة التقديرية لا التحصيل، أو يظهر كمدرس فاشل لا يقوم بمهامه، أو كإدارة تربوية هاجسها الأول صورة المؤسسة مهما كلفها الأمر، فتتورط في النسق حتى النخاع وهي تكرس اللاتكافؤ بين المتعلمين، من خلال توزيع الفصول على أساس الميز السلبي الذي يضرب معيار التفييء داخل جماعة الفصل حيث يجب أن يتكون الفصل من فئة متفوقة وأخرى متوسطة وثالثة ضعيفة، كي يتحقق التفاعل الصفي والتعلم بالأقران وتعطى الفرصة للضعاف لتجاوز التعثر، والإدارة التربوية مدعومة من الهيرارشية الإدارية ومن ترسانتها البيروقراطية دعما كليا، ومن الأطر العاملة والمتدخلين نسبيا، فتميز بين من يسمون علميين ومن نبذهم هذا النسق تحت مسمى أدبيين وهو مسمى راق، لكن في جوهره هامشي، أدى إلى تبخيس الأدب والمسلك الأدبي، وبين العلميين أنفسهم وفيهم الدرجة الأولى المقربة والدرجات المقصية الموسومة بكل يافطات "السلبية" و"الشغب" و"ضعف الذكاء" و"الطاقة العدوانية"... وهلم جرا من التوصيفات السهلة للنسق القائم على الشحن والميز والتحطيم، تتورط في تكريسها الإدارة والمدرسون والآباء، لكن بدرجات ومسؤولية متفاوتة، حصة الأسد فيها للإدارة المحكومة بالخوف، والأفق المحدود وهاجس التعليمات والتوجيهات الفوقية، أما الإدارة القائدة المنفتحة ذات الرؤية البعيدة والشخصية القوية الممانعة، فإن وجودها باهت في النسق التربوي الفاشل.
الخطاب التربوي لهذا النسق خطاب متناقض تناقضا صارخا، توجد هوة سحيقة بين المعلن من جهة من خلال الوثائق التوجيهية (الميثاق والرؤية) وهو خطاب متقدم نظريا يسعى إلى تحقيق الإنصاف والجودة والنجاح... والممارسة المتناقضة من جهة ثانية وهي ممارسة متخلفةحافلة بالمثبطات والاكراهات والعوائق والإخفاقات.
وبينما ينص الميثاق الوطني على أهداف نظام التربية والتكوين بالمغرب وفي صدارتها تحقيق جودة التعلمات وجعل المدرسة المغربية مفعمة بالحياة و"منح الأفراد فرصة اكتساب المعارف والقيم والمهارات التي تؤهلهم للاندماج في الحياة العملية، وفرصة مواصلة التعلم كلما استوفوا الشروط والكفايات المطلوبة، وفرصة إظهار النبوغ كلما أهلتهم قدراتهم واجتهاداتهم" (الميثاق، ص8)، يبقى النسق التربوي المتحكم في التربية والتكوين في جوهره نظاما ينتج ويعيد إنتاج فشل المنظومة برمتها، والفشل الدراسي أبرز تجل له، وبعد ما يربو عن عشرين سنة نتساءل : أين نحن مما سطره الميثاق من جودة وإنصاف وحياة مدرسية وتكافؤ للفرص وغيرها من الشعارات الرنانة؟
لم يتغير شيء في اتجاه تحقيق شعارات الجودة والانصاف مع "الرؤية الاستراتيجية" التي تشدد على هذين المدخلين، إذ "يعد تعميم التعليم بفرص متكافئة رهانا سياسيا ومجتمعيا حاسما لتحقيق الإنصاف على المستوى المجالي والاجتماعي وعلى أساس النوع، والقضاء على التفاوتات بمختلف أنواعها، وإقامة مجتمع إدماجي تضامني" (الرؤية الاستراتيجية، ص 13)، لا تزال التفاوتات بين المناطق وبين القرية والمدينة والمغرب العميق، ولا يزال الميز ممارسا بعنف على التلاميذ بين "العلميين" و"الأدبيين" وبين تلاميذ "علوم رياضية" والمسالك الأخرى، وداخل نفس تصنيف "علوم رياضية" أو "علوم فيزيائية" نجد الميز بين الاقسام رقم واحد وغيرها، ولا يزال استمرار تبخيس الفلسفة والأدب، وتحقير المعارف ما لم يكن معاملها كبيرا....
لا فرق بين مضمون الفقرة التالية وما يزخر به "الميثاق" و"الرؤية" من أهداف غاية في التقدم : "يرتكز مبدأ الإنصاف في التربية على أساسين: الأول هو المساواة في الحظوظ، والثاني يتمثل في تمكين جميع المتعلمين من المهارات والقدرات والمعارف الأساسية"، (فيلد وآخرون، ص 13), لكن الفرق يمكن في تناقض الأهداف المعلنة مع النتائج عندنا وانسجامها في النماذج الناجحة.
إن فقر الحياة المدرسية وشحوبها عندنا في الواقع وفي تناقض مع الأهداف المعلنة للتوجهات الرسمية ينطوي على عداء سافر يحاول أن يضمره النسق التربوي للنجاح القائم على الإبداع والابتكار وهو يكرس النمطية وعقم الطرائق والمناهج والشحن والضغط وتضخم المقررات والغلاف الزمني الدراسي للتلميذ والمدرس، ويعقد المهام البيروقراطية للإدارة التربوية.
ليس من باب تحصيل حاصل القول إن العمل التربوي وفق مشروع دقيق وواضح الأهداف يشكل آلية ممانعة ناجعة للحد من الفشل الدراسي، بل هي أطروحة "غريبة" ويحتاج كثير منا إلى الاقتناع بها، لأن المشروع التربوي يحفز نبض الحياة المدرسية ويحبب فضاء المؤسسة للمتعلمين ويقوي الإقبال على التعلم، ويدمج المتعثرين، وينمي ملكة الإبداع... إنه يشتغل في عمق بناء شخصية كل متعلم ويساهم في رسم ملامح الشخصية الجماعية للجيل الصاعد وهو يحمل نفس الاهتمامات وطريقة التفكير ونفس الهموم والانشغالات والمطامح والمخاوف...
نقول "العمل وفق مشروع تربوي" وهو أعمق من تعبير "النشاط المدرسي" "الموازي" أو "المندمج" الذي تستدعيه تطلعات ذاتية ضيقة للمدرسين وأهداف تاكتيكية غير استراتيجية للإدارة التربوية، ويخضع غالبا للعشوائية والمزاجية، وذلك لأن النسق التربوي لا يعترف به، ولا يقره إلا كعمل طوعي وغير أساسي، وهذا أيضا من أعمق الاختلالات في المنظومة التربوية ببلادنا.
ينبغي أن نعترف أن المشروع الديمقراطي الحداثي لا يمر إلا عبر تغيير السياسة التعليمية، ولن ينجح أي إصلاح للتعليم إلا بتغييرها جذريا، وذلك من خلال:
1- اعتبار قطاع التربية والتكوين قطاعا منتجا للعقول يرتكز على الرأسمال البشري، وهو أساس التنمية الحقيقية الشاملة والمستدامة، ومرتكز أي إقلاع حضاري، وتخصيص ميزانيات محترمة للنهوض به.
2- تحقيق العدالة المناطقية وتمكين كل المتعلمين أينما كانوا في المغرب من تعليم جيد.
3- إعادة النظر باستمرار في المناهج والبرامج والكتب المدرسية.
4- دمقرطة الإدارة التربوية وإلغاء سلطة القرار الفوقي ونبذ العمل بالتعليمات والاعراف.
5- إلغاء العمل بالتصنيف الحالي للمسالك في الثانوي، واعتماد مسلكين فقط: مسلك العلوم البحتة ومسلك العلوم الإنسانية، ونبذ الميز بين المتعلمين.
6- القضاء على آفة الاكتظاظ وتوفير الأطر الإدارية والتربوية والبنيات اللازمة.
7- الاهتمام بالصحة النفسية والمشاكل الاجتماعية للمتعلمين والأطر التربوية والإدارية، وخلق مراكز الاستماع والوساطة التربوية من أجل الدعم النفسي والاجتماعي للمتعلمين في المؤسسات التربوية.
8- التخفيف من المقررات الدراسية ومن الغلاف الزمني للتلميذ، وحفز التميز.
9- إدماج المواد الدراسية الفنية في المنظومة التربوية وتخصيص معامل محترم لها.
هامش
------------------------------
مراجع بالعربية
1- اللجنة الوطنية للتعليم، الميثاق الوطني للتربية والتكوين، القسم الأول، المبادئ الأساسية.
2- المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، الرؤية الاستراتيجية، من أجل مدرسة الإنصاف والجودة والارتقاء، رؤية إستراتيجية للإصلاح 2015- 2030،
3- محمد الدريج، الفشل التربوي واساليب الدعم التربوي، منتدى مبادرات الأساتذة المغاربة، ملف PDF
مراجع بالفرنسية
1- Recherches enseignement, Presse de l'Université-du Québec, n°7, Éducation et Formation en Espaces Francophone, La prévention de l'échec scolaire: une notion à redéfinir, Jean Paul Martinez et al, 2008.
2- SIMON FIELD et al, Politiques d’éducation et de formation: En finir avec l’échec scolaire DIX MESURES POUR UNE ÉDUCATION ÉQUITABLE, LES ÉDITIONS DE L’OCDE, André Pascal, PARIS, 2007.