المفردة الشعرية ورونق المعنى
في الديوان المشترك "قصائد العشق والوطن"
من المؤكد أن هناك كثيرا مما يجمع ثلاثة شعراء في ديوان واحد، حتى وإن لم يشتركوا في كتابة القصيدة الواحدة، واستقل كل واحد بأشعاره ضمن الكتاب الواحد، فإن المشترك بينهم قائم في مستويات الإبداع الأساسية التي ينبني عليها الخطاب الشعري؛ من موسيقى ولغة وأسلوب وتيمات ودلالات... ولذلك فهو ديوان مشترك، يتحمل فيه الشعراء الثلاث وزر ومحاذير المخاطرة الشعرية، ويتبنى كل منهم هذا المشترك بما له وما عليه، وأهم من ذلك أن الشاعر مدعو دائما للثورة على ذاته في أفق رحب واسع، يصبو فيه لاكتمال رؤياه الشعرية واتضاحها، وهي رؤيا جمالية وجدانية وفلسفية باعتبارها شرطا نوعيا للطفرة الشعرية.
تكثف عتبة عنوان الديوان"قصائد العشق والوطن" التيمات المشتركة بين الشعراء الثلاث؛ عائشة الطاهري، عبلة بن عبو ويحيى لشخم، وتتوزع بين شقي العنوان : العشق الذي يمثل تيمة الحب، والوطن الذي تتداخل فيه تيمات المرأة-الأم، والمرأة-الحبيبة، والرجل الإنسان بشكل عام بتيمات المدينة والقرية والأرض والطبيعة، إذ لا يمكن أن يكون الفصل بين العشق والوطن في الشعر والإبداع عامة إلا كإجراء منهجي تستدعيه الدراسة، ففي كل قصيدة حب يثوي وطن صغير يختزل الوطن الكبير، وعشق الإنسان لا تنفصم عراه في الوطن وفي حضن البيئة الطبيعية والاجتماعية والثقافية، ولذلك فهي قصائد لعشق الوطن بكل ما تزخر به الكلمة من حمولات فردية، جمعية، حميمية وبيئية.
تتوالد المفردة الشعرية وتتظافر لنسج رونق المعنى في نصوص الديوان، من خلال آلية المجاز المعبرة عن الدفقة الشعورية وتفاوُتِ نفَسها واسترسالها، في النصوص العمودية والتفعيلية على حد سواء، ويمكن بداية أن نميز بين صنفين من المفردات الشعرية الموظفة هنا:
- مفردة شفيفة معبرة عن الانفعال الشعري، واضحة المعنى معجميا، تندرج في سياق النص ضمن تشكيل رونق المعنى، وتنزع نحو بلورة رؤيا شعرية حداثية.
- ومفردة تراثية تستجيب لسياق التعبير، تحيل إلى سياق معجمي - شعري خارج النص، ممتحها في أغوار القصيدة العربية القديمة وتعابيرها المخصوصة؛ أي أنها تقع خارج اللحظة الشعرية التي ترتبط بشروط إنتاج رؤيا شعرية معاصرة، ويحضر هذا الصنف الأخير من المفردات في قصائد عائشة الطاهري التي أبانت عن اقتدار واضح في صوغ القصيدة العمودية، بسلاسة أسلوبها حتى وهي توظف المفردة التراثية مثل "الحشا"، "الوغى"، "اللظى"، "مُقحَل"، "مُخَضَّل"، و"موئِل" ... علما بأن قانون القافية يفرض على الشاعرة استدعاء آليات الصنعة للحفاظ على النظام الصارم للقصيدة العمودية، أما في قصيدة السطر الشعري الحر فإن القافية تأتي عفوا، ومن شأن الحرص على حضورها أن يفسد جمالية القصيدة وعفويتها، ويلقي بها في متاهات التصنع.
يعتمد تشكيل رونق المعنى في "قصائد العشق والوطن" توظيفَ المفردة الشعرية للتصوير باستعمال الأسماء التي تكثف دلالات مرتبطة بالوصف، والتعبير عن الانفعال الشعري باستعمال الأفعال، فنجد توصيف المرأة في قصيدة "حواء جنة آدم" من بحر الرجز بأسماء مثل "حواء"، "الشذى"، "نخلة..." وتراكيب الإضافة التي تحمل إسنادا مجازيا يحمل جمالية في التعبير الشعري ويبرز عظمة المرأة، مثل "درة الكون"، "جنة آدم"، "صرخة النصر"، "تيجان عرش"... وتتشابك المفردة الشعرية هنا لتنسج صورة المرأة المغيبة عن الوعي الجمعي في مجتمع ذكوري لا يعترف بها، بينما تُنشِئ الأفعالُ متوالياتٍ تعبيرية تتعاقب مع الأسماء والتوصيفات، تدفع بشحنات التعبير كي تتظافر بالتصوير في سياق الجملة الشعرية، "افخري"، "استرسلي"، "اصدحي"، يتلو آيه"، "اكتوت أنامل"، "تسمو الدنا"، "تطفئ جمرة" ... نقرأ في مطلع القصيدة :
يا دُرّٓةٓ الكونِ افْخٓري و اسْتٓرْسِلي
في نٓشْرِ ذٓرّٓاتِ الحٓلى المُسٓرْبٓلِ
حوّاءُ..يا جنةٓ آدمٓ ، اصدحي
بما سُقيت من سحاب منزل
أنتِ الشّٓذى، في الأفْقِ يٓتْلُو آيهُ
عنْ كلِّ حُلْمٍ في الحٓشــا مُؤٓمّٓلِ
لكن المفردة الشعرية عند عائشة الطاهري مختلفة بين البناء العمودي والبناء التفعيلي، ذلك أن منطق القصيدة التقليدية يفرض على الشاعرة خطابا مباشرا غير موغل في الانزياح، متقيد بالأسلوب التراثي في التعبير، ففي قصيدتها "يا العزيزة" وتحتفي فيها بالأم، نلمس اللغة الحديثة من خلال مفردات متحررة من قيود العروض التقليدي الصارم، ما يدفع بمداها أكثر نحو مجازاتٍ ذاتِ رونقٍ أبهى، مثل "فوضى العثرات"، "أنين الأمنيات المُقبَرهْ"، "نعي النغمات"، "غيمة أنت"، "تَزُف الغيث"، "رؤانا العابرهْ"، "وصدى يعبر" ... لنتذوق جمالية المفردة الشعرية ورونقها في المقطع الأخير من هذه القصيدة، وهو يعبر عن ألم الفراق جراء الرحيل :
كيف آثرتِ الرحيلا؟
وسنا أحلامِك الجذلى
على رأْسك إكليلا
بِكفٍّ تملئين الجُبّٓ غٓمْرا
وبأخرى ..
تنثرين الترْبٓ إِكْسيرا
بواديك، بوادينا...
حقولٌ من أمانينا
سنٓسْقيها رواءً..
وعيونا..
وعبيرا..
من بين قصائد الديوان تستوقفتا مقاطع معينة، قوية، ذات وقع في التلقي، نظرا لسلاستها وجماليتها، وتميز مفردتها ضمن سياق التعبير الشعري، وفي قصيدة "بكل كبرياء" لعبلة بن عبو، يلمع المقطع الثاني برونقه مستعملا مزاوجة في الأسماء بين النعوت وتراكيب الإضافة المسيطرة لا على نصوص هذا الديوان فحسب بل في التعبير الشعري الحديث بشكل عام، حيث المركب الإضافي أساس المجاز عند شعراء العربية اليوم، فنجد هذا المركب هنا حافلا بالانزياح في تعابير مثل "وحلّقتُ لقطعِ طرقِ قوافلِ الأشواقِ"، "دقات الوريد" "نهْب ممتلكاتِ الحنين"، أما المركب النعتي فقوي في عبارات مثل "الرجل العنيد"، "العيون الساهدات" تقول الشاعرة في هذا المقطع اللافت :
آه أيها الرجل العنيد
أخاف أن تضيع رسائلي
فتسرقها حمامات البريد
ويُذاع سرّي بين دقاتِ الوريدْ
وتفضحني العيون الساهدات
مع ذكرى لا تغيب
حينها سأكتب حروفا
وأرسمك على الجدارِ
كطفل يدنو من فرح أكيدْ
قد تنتظم المفردة الشعرية ضمن قاموس مخصوص خارج الخطاب الشعري، يُستعار لسياق القصيدة، فيشكل رونق دلالتها، وفي قصيدتين لعبلة بنعبو "طواف" و"قِبلة بهية"، يتحول الطواف في التعبير الشعري إلى طقوس للحب، نجد مفرداتٍ ذاتِ بريقٍ بهيٍّ وهي تنتظم في تركيب الدفقة الشعورية، مثل "نافلة اللقاء" وهي "نافلة بلا انتهاء"، الطواف هنا يكون حول "رحاب الوجد"، حيث "المسعى" بين "صفا الفؤاد" و"مروة الالتقاء"، تقول الشاعرة في قصيدة "طواف" :
سأروم من عينيكَ نافلةَ اللقاءْ
كيفما شاء الحنينُ
مثنى ... ثلاث أو رباعَ
بلا انتهاءْ
وأطوف حول رحاب وُجدكَ هائمةً
سبعا مُرَمَّلَةً .. وأخرى في السماءْ
مسعاي يبدأ عند صفا فؤادكَ
ماشيه .... ومهرولة
وخطايا سبقتني لمروة الالتقاء
سأزم مائي بين قيود اشتياقي
فمقام عشقك يعادله ارتواء
وأمد كفي عَله يلقاه طيفُك
وأقيم ليلي تارة همسا
وأخرى بالنداء
بدونك لا اكتمال لأدمعي
فالعين يُغرقها حنينٌ ...واشتهاءْ
وفي قصيدة "قِبلة بهية" تنسج الشاعرة رونق المعنى، من خلال مجازية المفردة الشعرية في السياق الاستعاري لقاموس الطواف أيضا ومفرداته المخصوصة، فنجدها مفتونة بمفردات مثل : "مناسك شوق" "أصبح طيفك قِبلتي"، "أطوف حولها"، "أحج إليها"، "أرمي شيطان الغياب" ...
يستمر المجاز آليةً لتشكيل رونق المعنى وتحرير الدفقة الشعورية المتحكمة في طول السطر الشعري، في قصيدة "وحي" ليحيى لشخم تتزين فسيفساء اللغة الشعرية بمفردات شفيفة تشكل سطور الانزياح، فجعل الشاعر للغة سماء لها سقفٌ، وللذاكرةِ جدارا، ولليل قيثارة... وجعل الوحيَ ملونا والزمنَ قابلا للحشو ... نقرأ في قصيدة وحي :
مِنْ سَقْفِ سَمَاءِ اللُّغَةِ
يَسْقُطُ وَحْيٌ مُلَوَّنٌ
يُلَوِّنُ جِدَارَ ذَاكِرَتِي
وَيَحْشُوهَا بِالزَّمَنِ المَنْسِيّ
عَاشِقَانِ وَ بُنْدِقِيّةٌ
وَعِنَاقٌ
يُغَنِّي أُغْنِيَّة يَابِسَة
وَيَخْتَفِي
وَتَخْتَفي مَعَهُ قِيثَارَةُ اللَّيْل
وَمِنْ تَجَاعِيدِ وَجْهِي
أَجُرُّ جُذُورَ الطّفُولَة
عَلَى سَطْحِ المَاءِ
وَأَغْفِرُ لإِلۤهَةِ الحُبّ
آهٍ يَا سيدتي
أَحْرَقَنِي يَبَاسُ عَيْنَيْكِ
وَذَوْبُ شَفَتَيْكِ
وَقَصِيدَةٌ كُنّا نَكْتُبُهَا مَعًا
بِلاَ ذَاكِرَةٍ ..
تَحْتَ سَقْفِ سَمَاءِ اللّغَة.
وفي قصيدة "رجل بلا روح"، ليحيى لشخم نجد الأنا طفلا، والطفولة بسطٌ لحالة الأنا التي ترزح تحت الضياع، وتصويرٌ لحالة الحزن المسيطرة على النص الشعري، تتدافع الأفعال للتعبير عن تدفق مشاعر مغرقة في السوداوية، تنتظم ضمن تراكيب تزخر برونق يتوسل بالمجاز، مثل : "يصطاد الضوء"، "يجمع ما سقط من تخوم العمر"، "يعيش مكشوف الصدر"، "يلبس وقتا"،"بلا نافذة"، والنافذة هنا هي أفق المستقبل هي الأمل، والنافذة مفقودة، فهو مستقبل هلامي غامض، ومفردة "متعطش للعدم"، حيث الرغبة في الرحيل عن العالم، مسحة تشاؤم صارخة تمتد إلى قفلة النص الشعري بجملة عبثية ساخرة، فيقول : "هنا يمكنه أن يموت بحرية".
مسحة الحزن سمة نصوص الشاعر يحيى لشخم في هذا الديوان المشترك، ويستوقفنا نص "وهم في المرايا" الذي يبدأ بمقطع غلب عليه السرد، بجملة قصيرة تقدم فضاء القصة، قصة الوباء والحجْر الصحي، وقد بدا هذا المقطع كأنه يقدم النص الشعري، وهو ما لم يكن ضروريا، وكان من الممكن توظيف مفردات هذا التقديم في صدر النص الشعري لإثراء الدفقة الشعورية وللإيحاء بسياقه المتمثل في مشاعر القلق والخوف والترقب التي لازمت حضور الوباء، وغير هذا فإن قصيدة مرايا حافلة بالمفردة الشعرية الآخذة في الانزياح، نجد مثلا عبارات "دع المرايا"، "تتسلل"، "جداول الروح"، تستلقي في كأسي"، "شمس العصاة"، "غرفة شاردة" ... في قصيدة "دع المرايا" يستوقفنا مقطع بليغ الرونق في المفردة والمعنى، يقول الشاعر:
دَعْهَا
تَسْتَلْقِي فَي كَأْسِي
نَشْرَبُ مَعا
شَمْسَ العُصَاة
مَعَ أَطْيَافِ الظَّلاَم..
وَنَأْوِي مَعا
إلَى غُرْفَة شَارِدَة
بَارِدَة
إلَى رُكْن
اَوْ كَهْف
أَوْ بَقَايَا أَحْلاَم ..
"قصائد العشق والوطن" تفتح آفاق القراءة والنقد على أمداء شاسعة بحثا عن مسالك آمنة للشعر، في خضم التحولات العميقة للإبداع وللأدب، في سياق واقع متغير، شديد التعقيد، وفي عالم مفتوح مضطرب، موغل في التحول والتبدل.