أحلام الذات الحميرية


أحلام الذات الحميرية 

قراءة في قصة برج الحمار لعبد القهار الحجاري -من المغرب 



يفتتح الكاتب حكايته ببداية ساخرة ، تعبر عما يدخره لقارئه من مشاهد خيالية تفيض بالكوميديا السوداء ، يبدأ حكايته واصفاً نفسه " بالكائن النباتي يلتهم عشبا لذيذا، جالسا القرفصاء ، أنظر خلف السور الدائر حولي " ، لأسخر من نفسي أنا أيضا وأحدثها :

" الصورة أمامي تصف إنسانا برأس حمار ، فلا يوجد حمار يجلس القرفصاء ".

وفورا قفزت إلى ذهني الحكايات التي تروى في صورة أحلام ، فالكاتب رسم صورة أولية لكائن يلتهم العشب بتلذذ ، قطع متعته إنسان يتحرك فوق درجات السلم ، فيصاب بالضجر من سخافة البشر الذين يفتقدون للإنسانية ، والرحمة ، فلا يتركون كائنا مسالما ووديعا يعيش في هدوء وسلام، إلا و يبحثون له عن أسباب لتكدير رضاه الظاهري والمزيف، يعبر عن سخطه في فضفضة مع الذات الحميرية : " لماذا أوصم بالبلادة والغباء ؟ ألأنني أعمل بجد وإخلاص؟ أم لأني لا أدك أحداً بقوائمي وأعبر على جسمه ؟"

"الخطى الثقيلة ما فتئت تدك الأرض. وتكسر السكينة. وروائح الروث الكريهة تخنق الأجواء ". ، نلاحظ هنا أن الصورة التي بدت صافية وحافلة بمظاهر الطبيعة المبهجة للحواس، مثل زقزقات العصافير وأنغام حفيف الشجر، وهمسات عناصر الطبيعة  مثل اهتزازات أوراق الشجر وسيقان الزهور، أفسدها ظهور الإنسان بصوت خطواته، وصاحب ظهوره المظاهر التي أفسدت المشهد البديع والخلاب، ففاحت في الجو الروائح الكريهة، وتكسرت السكينة بفعل ضوضائه المنفرة والملوثة للسمع .

المعنى واضح وهو أن الإنسان الذي تعميه الغفلة عن واقعه وعن قيمته المتدنية، في عالم يدوس بأقدامه على كرامته وإنسانيته ويفقده هويته كآدمي، ويشعر أنه لا يفرق شيئاً عن الحمار، لا يفيق من الغفلة إلا بالصدمات التي يحدثها إنسان مثله، يمارس عليه سلطته وينتهك حياته وينزل على ظهره بضربات السوط من حين لآخر، ويفسد عليه متعه البسيطة ليشعره بالمذلة والهوان.

ثم ينقلنا إلى صورة أخرى ، تظن أن الراوي انتقل لليقظة من بعد الحلم، وأن هاتفه يرن ولا يجده، ثم يرن ثانية، لتجد أنك خدعت وأنك في حلم آخر داخل الحلم الأول، فليس من الطبيعي أن تتكرر مكالمة خاطئة تحمل سبابا من متصل وقح، وليس من الطبيعي أن يشك الإنسان في واقعه في حقيقته، فلا يعرف هل هو إنسان أم حمار ؟ ، للدرجة التي تجعله يتحسس  أذنه  ليتأكد ! ، والأغرب هنا أنه لا يتذكر إن كانت هناك أنثى أم لا ، ويعود ليتساءل : "هل كانت لي زوجة أم خلعتني ؟ ، أعلم أن كثيرا من الحمير تزوجوا نساءً " . إنها كلها إشارات تهكمية ، تذكرني بأسلوب بوكوفسكي من انهزامية أبطاله واستسلامهم لأن يقادوا مثل الكلاب والحمير ، دون إرادة أو رغبة في التمرد على واقع مرير، أو حتى للإعلان عن الغضب دون خوف أو حساب لعواقب .

تذكرت قصة لبوموفسكي أن بطله تحول لكلب يتابع خطى زوجته .. بل وصل به الذل والهوان أنه أصبح يثبت على قائميه الأميين ليصفق لها. وسمح لها أن تربطه بسلسلة ليسهل عليها سحبه!!! 

** 

نعود إلى بطل قصتنا .. الذي 

رأينا من خلال وصفه للحالة أنه في حلم، فقبل مكالمة الهاتف نتأكد من عدم إدراكه لما يحدث حوله، عندما يحدث نفسه قائلاً:"

"نظرت من خلال نافذة.. كل شيء على الأرض مقلوب أيضا. الناس في أشكال هندسية غريبة في الهواء ورؤوسهم متدلية إلى الأسفل، كل شيء مقلوب رأسا على عقب؛ العمارات، السيارات، الأرض والسماء.. ربما أكون قد ازدردت نبتة خبيثة. أو أصابتني حمى. أو حدث لي خبل. هل أنا إنسان؟ أحقا أنا إنسان؟" .

**

جزء من القصة ، وهو أهم جزء ويشبه لحظة الوعي أو محاولة الإفاقة داخل الحلم ، فيفاجئنا بمزيد من صور ولوحات حية، كلها تشير إلى فانتازيا الأحلام، فهي لا تمت للواقع بصلة، حتى أن البطل الراوي نفسه يستنكرها، ويتأملها في انشداه وذهول، يعبر عنها قائلا :"وجدتني أسير في شوارع بلا إسفلت، ولا ملامح.. كلها حفر وأتربة. أرصفتها رخام نفيس" 

"سيارات فارهة. تركبها كتل لحمية ضخمة. تتحرك بخشونة تاركة وراءها عجاجاً أغبر، تنفذ ذراته إلى أعماق الأجسام" .

إشارة أخرى إلى بهيمية البشر في العصر الحديث وافتقادهم للتحضر بمعناه الحقيقي، فهم في هيئتهم الضخمة المحشوة بالدهون والمنتفخة في هيئة أجساد عجول، تؤكد أن البشر في العصر الحالي اكتسبوا -مقابل الحياة العصرية بكل رفاهياتها وميكنتها – قيما وأخلاقا فاسدة وخالية من الآدمية والرحمة والمروءة، نرى أيضا المزيد من الصور الغاضبة يعبر بها عن همجية إنسان العصر الحديث، باللحى المشعثة الغبراء ، النظرات المسروقة إلى أجساد النساء اللاهيات ذوات الرؤوس المتحجبة والأرداف الظاهرة والبارزة عن عمد، وعيونهن الشبقية الخالية من الحياء".

 "شخوص بلهاء، فاغرة الأفواه. شعثاء اللحى والرؤوس.. تحمل دلاء محملة بأسماك غريبة. يقفز بعضها إلى الرصيف. يتزحلق عليه. أسماك حية تفر من أصحابها الذين يهرولون خلفها" .

**

وعند اقتراب الحلم من  نهايته، نجد الأديب يفسر لنا سر العنوان العجيب، فيدخلنا معه إلى دكان يبيع بضائع متنافرة وغير متسقة مع بعضها، فتحتار حول ماهيته هل هو دكان عطارة أم بقالة، أم مكتبة ؟ ، والغريب أن بجوار كل ما سبق يبيع الدكان الخمور، هناك رف من الكتب يقع وسط أكياس البهارات المختلفة، ليعطيه البائع كتابا قديما منها يحمل عنوان " برج الحمار " ! .

وفي إشارة أخرى لاذعة لواقعنا الطافح بالمتناقضات يقول الحجاري بعدما انتقل من الدكان إلى المقهى : "وجدتني جالسا في ركن مقهى مشحون برائحة الكيف، وقد علقت في مدخله يافطة أنيقة كتب عليها:«ممنوع تدخين المخدرات»!! .

وهنا يقدم لنا تفسيرا لكل الصور العجائبية السابقة، الغريب أن التفسير يقدمه لنا الحمار الذي ربطه صاحبه بقرب عمارة وسيارة خرافية، أيضا هنا التنافر المعبر عن واقع لا يخلو أحياناً من قبحٍ وعدم اتساق، يقول الحمار للراوي :" برجي جميل لكنه ثقيل الفهم، هو برج كتب مضمونه اللصوص والفاسدون ليبرروا ممارساتهم تجاه مرؤوسيهم، رافعين شعار "العمل للحمير".

**

الملاحظة التي لفتت نظري :" لماذا لم يتوقف الحجاري عند :" أنت أيضاً بإمكانك الشيء الكثير "، ليفيق بعدها الراوي مباشرة على محاولة نزع العصابة عن عينيه ! 

**

لا أعلم لماذا كانت تتردد في عقلي رباعية صلاح جاهين :" اقلع غماك يا ثور وارفض تلف 

اكسر تروس الساقية واشتم وتف 

قال بس خطوة كمان 

يا أوصل نهاية السكة يا البير يجف " 

 #عبير_سليمان

8 سبتمبر 2021 

#صدى_ذاكرة_القصة_المصرية

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال