#ورقةنقدية
من القهر الطبقي إلى الانكسار الرمزي، قراءة فلسفية في قصة -برج الحمار- لعبد القهار الحجاري
حمزة اغزيل
لطالما شعرت أن النصوص التي أكتب عنها هي التي تختارني لا أنا من أختارها… لا أزعم لنفسي صفة الناقد الأكاديمي بل أعتبر نفسي قارئا مسكونا بشغف النصوص التي تترك أثرا داخليا يحرك فيّ شيئا لا يهدأ كنبض خافت يهمس في أعماقي… حين أصادف قصة قصيرة تأسرني أجد نفسي أعيد قراءتها مرات ومرات، أدون الملاحظات، وفي كل قراءة أكتشف طبقة جديدة من المعاني تجعلني أعود إليها بلا كلل، ما يزيد من عمق الورقة النقدية ودقتها ويثري تحليلي بملاحظات متجددة… وبما أنني أميل إلى كتابة القصة القصيرة فان علاقتي بها تتضاعف… أتعلم منها تقنياتها، وأستمع إلى صوتها الخفي الذي يشبه إيقاعا موسيقيا يرافق القراءة والكتابة معا، صوتا يهمس في روحي ويحفزني على البحث عن المعنى بعمق… كثير ما تتطلب مني قراءة نص واحد وتحليله ساعات وساعات من التدقيق، ومراجعات متكررة، وقراءة فلسفية دقيقة وبحث معمق في الفلسفة عن الأفكار والمفاهيم التي تليق بتحليل هذا النص…
أعتمد في تحليلي على هذا الجمع بين الغوص في تفاصيل النص والبحث الفلسفي لالتقاط الرموز والإيحاءات، وهكذا تتكشف أمامي لحظة إنسانية خاطفة تتحول إلى عالم كامل ينبض بالوجود ويحتوي على كل تفاصيله الممكنة… إذ إن القصة القصيرة، على عكس الرواية، تقوم على مبدأ التكثيف والاقتصاد في اللغة، مع المحافظة على روح النص وعمقه، لتصبح تجربة القراءة كاملة ومركزة… وهي لا تسعى إلى سرد الأحداث على نحو خطي كامل كما في الرواية، بل تشتغل على الإيحاء والفراغات التي يملؤها القارئ بخبرته وفهمه… وقد ارتبطت منذ بدايات القرن العشرين بالنزوع الرمزي والفلسفي، حيث تصبح التفاصيل اليومية العادية حاملة لدلالات تتجاوز ظاهرها، ويتحول الموقف البسيط إلى مدخل للتأمل في قضايا كبرى كالحرية، الهوية، والعبث… في هذا الإطار، تصبح القصة فضاء تجريبيا يختبر فيه الكاتب إمكانات اللغة في فتح نوافذ على المعنى الكامن خلف المشهد العابر، ويتجلى ذلك بوضوح في قصة -برج الحمار- للقاص المغربي عبد القهار الحجاري، ضمن مجموعته القصصية -خنازير الظلام- الصادرة في طبعتها الأولى سنة 2006، والتي تنتمي إلى نمط القصص الرمزية ذات النزوع الفلسفي–الاجتماعي، حيث يستعان بالمجاز الحيواني والمفارقة السردية لتعرية واقع الإنسان في مجتمعات مأزومة بالقهر، والاغتراب، والازدواجية الأخلاقية… الحجاري يوظف تقنيات التشخيص والتحويل الميتامورفي ليعكس صورة مقلوبة للعالم، حيث تتداخل حدود الإنسان والحيوان، وتتبدد الهوية بين الكائن العاقل و-الحمار- في بعديه البيولوجي والرمزي... ومن هذا المنظور، يكتسب العنوان -برج الحمار- أهميته بوصفه المدخل الأول إلى هذا العالم الرمزي، إذ يجمع بين دلالات الأبراج، بما تحمله من إيحاءات بالتنجيم وتحديد المصير، ودلالات الحمار في المخيال الشعبي، حيث يتراوح بين البلادة والصبر والاستغلال الصامت… غير أن البرج هنا ليس منزلة فلكية رفيعة، بل تصنيف مهين لكل من لا مكان له في سُلَّمِ القوة والهيبة، ما يفتح أمام القارئ سلسلة من الأسئلة: هل الحمار في النص مجرد كائن مغلوب على أمره أم استعارة للإنسان المقهور؟ هل يمكن أن يكون -برج الحمار- صورة للطبقة الدنيا في المجتمع؟ وإذا كان البرج رمزا للعلو، فلماذا يقترن بكائن أرضي مثقل بالعجز؟!
يبدأ الحجاري بداية هادئة، شاعرية، تتسم بانسجام بين الذات والمكان… الحمار (الراوي) يعيش لحظة لذة بسيطة: عشب، شمس ربيعية، نسيم، ألوان... هذه اللوحة الطبيعية تمثل -الفردوس الأرضي- الذي لا يحتاج سوى إلى القوت والأمان.. وبالتالي فإن هذه القصة تضع القارئ منذ السطر الأول أمام وهم الانسجام الأولي مع العالم، ذلك الوهم الذي يصفه نيتشه في بدايات مولد التراجيديا بوصفه المرحلة الأبولونية، حيث النظام والانسجام والصور الجميلة تخفي تحتها صراعات أكثر بدائية.. الكائن هنا، وهو الحمار، يعيش في مشهد مشبع بضوء الشمس وعبق الأزهار ودفء الأرض، لحظة بدائية من الامتلاء الحسي، حيث الجسد والبيئة في توازن، وحيث الحياة تبدو مكتفية بذاتها… هذا الانسجام يكتفي بامتصاص لذة اللحظة، وهو ما يشبه حالة البراءة قبل السقوط…
داخل الزريبة، يظهر السجان، الإنسان الذي يقدم البرسيم مقابل العمل، لكنه لا يكتفي بالاستغلال المادي، بل يضيف إليه الإذلال اللفظي والنفسي… خطاب «لحم أكتافك من خيرنا» يختزل علاقة السلطة بالتابع، إذ يُحوَّل العمل إلى منة، ويعاد تعريف الجهد الشخصي بوصفه عبئا على السيد… وهنا يتسلل منطق فوكو عن السلطة ليكشف كيف ينتقل النص من فضاء مفتوح إلى فضاء منضبط، من الحقل إلى الزريبة، من حرية الجسد إلى مراقبته وتأطيره... فالزريبة جهاز انضباط يعيد تشكيل الكائن ضمن منطق الإنتاج والاستهلاك، حيث يقدم السيد الغذاء مقابل العمل، ويحول هذا التبادل إلى علاقة تبعية تغلف بخطاب -أنا أطعمك إذن أنت مدين لي-.. بهذا، يصبح الإذلال جزء من البنية النفسية التي تنتجها السلطة، ويتطبع القهر ليغدو جزء من وعي المقهور ذاته، فتغدو الوداعة ضعفا، والصبر بلادة، والمثابرة مدعاة للوصم..
في هذه المرحلة، يظهر ما يسميه نيتشه -أخلاق العبيد-، حيث يعاد تعريف الصبر والوداعة على أنها قيم سامية، لكنها في الواقع أدوات لضمان استمرارية القهر… الحمار يتساءل عن سبب وصمه بالغباء رغم عمله، وهذه المفارقة تقوده إلى الحلم بالتحول إلى إنسان... هنا يستدعي النص سؤال كامو عن العبث: إذا كانت الحياة غير منطقية في جوهرها، فهل التغيير الجوهري ممكن بمجرد الانتقال من حالة بيولوجية إلى أخرى؟! هل يكفي أن نصير -بشرا- لنكون أحرارا؟!
حين يتحقق التحول، لا نجد المعجزة التي كان يتخيلها الراوي، بل نكتشف أن العالم الإنساني مقلوب رأسا على عقب: العمارات، السيارات، الناس، كل شيء معكوس، وكأن الانتماء إلى -الجنس البشري- لا يغير من عبث المنظومة شيئا، بل يكشف عن خلل أعمق في بنيتها... هنا يطل البعد الفلسفي لفكرة الانقلاب، حيث تصبح القيم نفسها مشوهة والمعايير فاقدة لاتجاهها… ويفتح بعد آخر للنص عند لحظة استيقاظ البطل بصعوبة، مضرجا في الألم الجسدي، إذ يشق رأسه ألم حاد ويشعر بوجع في عنقه… هذا الاستهلال الجسدي يعكس انكسار الذات وانقطاعها عن توازنها الطبيعي، كما يهيئ القارئ لفهم حالة الغربة النفسية التي يعيشها البطل... فراغ الأنثى بجانبه يتحول إلى مساحة رمزية للانعزال والتساؤل حول مصير العلاقة: هل خلعت الزوجة نفسها عنه، أم أذعن هو لرغبتها فطلقها؟! هذا التدرج الرمزي يوضح كيف تسهم البنى الاجتماعية في تطويع الفرد، وتحويله من كائن حر إلى ضحية مقيدة، ليس فقط بقيود الخارج، بل أيضا بأغلال ينسجها داخليا ووعيه ذاته… يدرك البطل ذلك مباشرة حين يتلقى اتصالا هاتفيا يعرّفه بأنه من -برج الحمار-، فتتسع الدائرة الرمزية لتشمل المجتمع بأسره: لا يقتصر الأمر على غياب الزوجة أو العلاقة المباشرة، بل على تصنيفات اجتماعية ملاحقة للفرد في كل زمان ومكان، تعكس أن الهوية ليست مجرد صفة فردية، بل نتاج تراكم للقيم، التصنيفات، والتوقعات التي تحدد موقع الإنسان منذ ولادته…
في هذه اللحظة، يتكشف الانقلاب العميق في العالم الإنساني: القيم والمعايير مشوهة، والانتماء إلى الجنس البشري لا يحمي من العبث الهيكلي ولا من الوصمة المستمرة... الاتصال يربط التجربة الفردية بالبنية الكلية للمجتمع، ويؤكد أن السلطة تمارس العنف الرمزي بشكل مستمر، كما وصفه بيير بورديو، بحيث حتى بعد التحول أو التغير الشخصي، يبقى الفرد أسيرا لإطار التراتبية المهينة… هذا يطرح سؤال الهوية بحدة: إذا كانت المعايير كلها مقلوبة، فما جدوى الانتقال من برج إلى آخر؟! وما معنى أن يكون للإنسان برج أصلا؟! في قلب هذا التوتر، يتحول البعد الشخصي للبطل – ألمه الجسدي، فراغ الأنثى بجانبه، الصراع بين الطرد والانسحاب الذاتي – إلى مرآة للبنية الاجتماعية بأكملها، موضحة أن القمع لا يكون مجرد قيود خارجية، بل يمتد إلى وعي الإنسان نفسه، ويعيد إنتاج العبث في كل لحظة من حياته... ومن هذا المنطلق، حين يسير البطل بين الشوارع المليئة بالغبار والسيارات الفارهة والأجساد المتناقضة بين التقوى والشهوة، تتجلى صورة مدينة مصابة بانفصام قيمي؛ ثراء فاحش إلى جوار قبح عمراني، محلات تبيع البخور والخمور في انسجام غريب، وجوه متدينة تسرق النظر إلى الأجساد التي يفترض بها أن تكون -مستورة-.. هذه المشاهد لا تعرض كإدانة أخلاقية بقدر ما هي كشف لآلية التعايش مع التناقض، وهي حالة تفرزها مجتمعات تحافظ على واجهة مثالية بينما تخفي تحتها رغباتها المشتعلة... المشهد السيريالي في الشوارع يفضح مفارقة المجتمعات التي تعيش على ازدواجية القيم: تَقْوَى علنية وشهوة مكتومة، فقر في البنية التحتية وبذخ في الكماليات، طقوس روحية تختلط بالتجارة الفجة... هذا التعايش بين المتناقضات يُذَكِّرُ بكامو وهو يصف الإنسان العبثي الذي يقبل التناقض كجزء من حياته دون محاولة لحله، مكتفيا بالتأقلم معه... لكن النص لا يكتفي بوصف العبث، بل يدفع القارئ إلى إدراكه كمرض اجتماعي، كآلية بقاء تقوم على الانفصال بين القول والفعل…
وسط هذه الفوضى، يلمح البطل كتاب -برج الحمار- الذي يشرح صفات هذا البرج باعتباره منزلة دنيا لمن لا قدر لهم، متضمنا أبوابا عن العمل والقبح والبلادة وضعف الإحساس... هنا ينتقل النص من الرمز إلى النقد الصريح لآلية التنميط التي تحول صورة الكائن إلى أداة للتقليل من قيمته، وتؤسس لمنطق استعلائي يشرعن القهر.. ويضع الحمير في خانة محددة سلفا، بأبواب تحدد حتى -قبحهم- و-بلادتهم-.. هذا الفعل المؤسسي يُذَكِّرُ أيضا بتحليل ميشيل فوكو لكيفية إنتاج المعرفة بوصفها أداة سلطة؛ فالكتاب ليس بريئا، بل جزء من جهاز فكري يسهم في تثبيت مواقع الأفراد في الهرم الاجتماعي…
اللقاء مع الحمار المربوط بجوار السيارة الفارهة يشكل انعطافة رمزية، إذ يمثل لحظة مواجهة الذات في مرآة أخرى، لكن هذه المرة المرآة واعية… هذا الحمار ليس صامتا ولا ساذجا، بل يتحدث ويعرف أنه في الضفة الأخرى قد يصبح رمزا، ويدعو إلى إحراق الجبن والعجز... هذه الدعوة تنقل الحمار من موقع الضحية إلى موقع الفاعل، وتفتح أفق المقاومة عبر الكلام والفعل… الحوار بينهما، الذي يتراوح بين السخرية والحزن، يوحي بأن المخرج من -برج الحمار- ليس في الهروب الجغرافي أو التحول الجسدي، بل في كسر الصمت ومواجهة البنية التي تنتج القهر... هنا، يلمح النص إلى ما يسميه نيتشه -إرادة القوة- بوصفها الشرط الضروري للتحرر، حيث الكائن لا ينتظر من يحرره، بل يسعى إلى تجاوز ذاته المفروضة.. الحوار بين البطل والحمار الواعي يعكس انتقالا من موقع التماهي مع القيد إلى موقع الاعتراف بضرورة الفعل، ولو كان هذا الفعل في البداية مجرد كلمة…
النهاية تعيد القارئ إلى الإحساس الثقيل على الصدر، وإلى العصابة التي تطبق على العينين، رمزا للقيود النفسية والاجتماعية… هذا الإحساس الجسدي يختزل المعنى الوجودي للقصة: حتى حين تقترب الذات من الوعي، تظل هناك قوى تضغط عليها لتعيدها إلى الظلمة، ما يعكس ما يسميه كامو -العودة إلى العبث-.. القيد لم يعد سورا أو حبلا، بل أصبح جزء من الجهاز النفسي نفسه، حيث يعيش الكائن صراعا دائما بين إدراكه لحقه في الحرية وثقل العجز الموروث والمكتسب… العصابة، في رمزيتها، تمثل العمى الاجتماعي الذي يفرضه النظام، ذلك العمى الذي يحجب رؤية الواقع إلا من خلال منظاره المحدود...
بهذا المعنى، -برج الحمار- يضع القارئ أمام مأزق وجودي: كيف يمكن للكائن أن يخرج من البرج الذي صنف فيه، إذا كان البرج جزء من الخرائط الذهنية التي صاغها المجتمع داخله؟! الحمار والإنسان في القصة هما صورتان لذات واحدة، تتأرجح بين الرضا البسيط والخضوع الممنهج، بين الحلم بالتحول واليقظة على قسوة العالم، بين لحظة الوعي الأولى والعودة إلى قفصها القديم… وفي هذا السياق، يكتسب الحمار بعدا يتجاوز حضوره الحيواني المباشر، إذ تتقاطع رمزيته مع تراكمات طويلة في المخيال الإنساني... ففي الثقافات الزراعية القديمة، كان الحمار رمزا للصبر والاحتمال، حاملا للأثقال ووسيلة عيش لا غنى عنها، بينما في الأمثال الشعبية تحول إلى استعارة للغباء والبلادة... هذا الانقلاب الرمزي في التاريخ الثقافي يعكس تحول القيم عبر الزمن، حيث تنتقل الصفات من الإيجابي إلى السلبي تبعا لبنية السلطة والمعنى... في القصة، يستعيد الكاتب هذه الازدواجية التاريخية ليعيد شحنها بدلالة معاصرة، فيجعل من الحمار مرآة للإنسان المقهور الذي أُلصقت به صفات الحط من قيمته، مع أن تاريخه العملي يشهد له بالجد والتحمل... وبذلك، يتحول -برج الحمار- إلى فضاء رمزي يجمع بين بقايا الأسطورة الشعبية، والواقع الاجتماعي الحديث، وتصورات السلطة عن نفسها وعن الآخر، في لحظة سردية تكشف أن ما يختزل إلى حيوان في الخطاب المهيمن، قد يكون في العمق حاملا لبذرة المقاومة والصوت الكامن القادر على كسر الصمت... وفي النهاية، كما عند نيتشه، لا يتحقق الانعتاق إلا إذا تحول الكائن إلى -الإنسان الأعلى، الذي لا يكتفي بكسر قيوده، بل يعيد صياغة القيم ذاتها ليبني برجا لا تفرض عليه هويته من الخارج…
وبهذا يمكن القول إن القاص والشاعر عبد القهار الحجاري قدم لنا في -برج الحمار- نصا متكامل البنية، متماسك العناصر، تتضافر فيه اللغة الرشيقة مع السرد الكثيف لتوليد دلالات تتجاوز ظاهر الحكاية إلى عمق التجربة الإنسانية… إن القصة القصيرة ليست تمرينا بسيطا في الحكي، بل فن صعب المراس، يتطلب من كاتبه موهبة أصيلة قادرة على الإمساك بلحظة عابرة وتحويلها إلى كون مصغر، كما يتطلب ثقافة واسعة ووعيا بتقنيات هذا الفن الدقيق… وقد استطاع الحجاري أن يبرهن، من خلال هذا النص، على امتلاكه حسا مرهفا بآليات الكتابة القصصية، وقدرة على توظيف الرموز والتكثيف والاقتصاد اللغوي بما يجعل القصة القصيرة حاضرة في أنقى صورها: نص يترك أثرا في الذاكرة، ويفتح بابا للتأمل في المعنى والوجود معا…
#حمزةاغزيل