(ليلة هلع عند ناهد) والواقعية المخاتلة
سيد الوكيل
مصر
كنت كتبت مقالا عن فهد العتيق بعنوان (الواقع على نحو مخاتل)، وهذا ملمح من ملامح ما بعد الواقعية التي تحركت في اتجاهات عديدة منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي تقريبا، منها الواقعية السحرية والفنتازيا والخيال العلمي الذي أصبح حاضرا بشكل قوي، ذلك أننا ودعنا الواقعية الكلاسيكية، وأصبحنا أمام واقعيات عديدة، افتراضية، معززة، معاشة.
في موضوع الواقعية أصبحنا في حجرة أمام مرايا، وفي كل لوحة داخل مرآة سنجد صورة مختلفة لأنفسنا عن تلك التي توجد في أي من المرايا الأخرى، وأصبح الواقع بالفعل مخاتلا، أو شبحا بتعبير مدحت صفوت، وهذه مرجعية لمقولات ما بعد الحداثة، حيث ارتبكت الرؤى عكس كل يقين، وتراجعت المقولات الراسخة، وانعكس جبل الجليد، وأصبح بالإمكان رؤية عمقه، من خلال رؤى جديدة بالنسبة لنا، ومشاهد لم نرها من قبل، وهذا خلافا للواقعية التي كانت طوال الوقت تشتغل على قضايا الواقع ومعانيه الكبرى، والواقع بالفعل مراوغ، يصعب فيه تحديد المكان والزمان، والقبض على مآل الحدث،
أفضل أن أستخدم هذا التعبير الخاص بي: الواقع على نحو مخاتل، فنحن طول الوقت نطرح أسئلة، وإذا قرأنا نص (ليلة هلع عند ناهد) نجد عددا من الأسئلة تتكرر: لماذا تورطت هذه الورطة؟ لماذا لم أنصرف؟ لماذا قبلت؟ أسئلة كثيرة تختلف عن الأسئلة التي كانت تطرح عن القضايا الكبرى في الواقعية التقليدية، إنما هذه الأسئلة هنا تعبر عن حالة ارتباك، هل فعلا ما يحدث في القصة هو سرد داخل السرد؟ إن الحدث قد تم بالفعل في الواقع أثناء تلقي النص، ويعود السارد ليجد نفسه في قطار يمر عبر أنفاق ودهاليز مظلمة كأنه خارج من معتقل، أو كما لو كان مر بثقب أسود وانتهى إلى عالم جديد، حيث يبدأ رحلة اغتراب جديدة، حتى أن الرؤى والأشياء والمسموعات والشخوص... كل شيء في النص في حالة من التناقض.
يبدأ هذا الاغتراب بالوقوف أمام المحل المزدان بإضاءة جذابة، ويدخل المحل لكنه يجد كل شيء يرزح تحت التناقض: الظلام والنور، الصخب والصمت، الجمال والقبح، روائح عطرة وأخرى عطنة، حتى الأصوات متناقضة، صوت المرأة الفاتنة مرة يأتيه جميلا ناعما ومرة نشازا خشنا، الرغبة والخوف: هل يقترب أو لا يقترب؟ وجود المرأة هل هو حقيقي أم هي مجرد شبح؟ نحن أمام نص مراوغ، ومخاتل، ولا يمكنني أن ألقي عليه بمقولات من السريالية، أو التداعي الحر والوعي الباطني أو تيار الوعي الذي ساد بعد الحرب العالمية الثانية والأزمات التي عاشها العالم إبان تلك الفترة، حيث بدأ الإنسان يعيد النظر في الواقع، فهنا لا حدود للعقل، وكل شيء مخاتل.
يمكنني القول إن قصة (ليلة هلع عند ناهد) تقع داخل نمط الواقعية المخاتلة التي تستمد مراوغتها من الواقع المخاتل نفسه بما فيه الواقع الافتراضي في غمرة التكنولوجيا ذات التطور الهائل المتسارع، حيث يختلط الوهم بالحقيقة، الواقع بالخيال، والصورة بالتمثيل الرمزي المعالج رقميا، ومن هنا يأتي الاغتراب، وهذه القصة تطرح حالة الاغتراب واللايقين ومراوحة المكان الحافل بالمتناقضات.
أنا سعيد أنني تعرفت على كاتب مدرك لطبيعة التغيرات التي طرأت على كتابة النص القصصي، والقصة بالتحديد باعتبارها فنا مرنا يقبل التجدد والتلون والتشكل بصور عديدة، وفي كل مرة تظهر القصة القصيرة بأشكال جديدة وملامح مختلفة، ما يؤكد أنها وإن كانت من خلية واحدة كما وصفت دائما، قادرة على التكاثر والتجدد، فتكون أكثر قدرة على المراوغة، أما أن كل ما يحدث في القصة فهو يحدث في قرارة السارد أو الكاتب حتى، أو أنه يحدث في القصة فحسب، أو أنه يجري في الواقع، فهذا ما لا يمكن حسمه باليقين، ولا يمكن لأحد أن يؤكده، لأن النص مخاتل بالفعل.